نظرة قانونية: التكامل الاقتصادي بين مكوّنات الدولة الفيدرالية
نظرة قانونية: التكامل الاقتصادي بين مكوّنات الدولة الفيدرالية
د. فلاح اسماعيل حاجم
2008 / 1 / 14
في ظروف العالم المعاصر، حيث التقارب والتكامل والتغيّر المتسارع يضع الشعوب والدوّل المختلفة امام خيارات تبدو، في الكثير من الاحيان، محيّرة. وحيث المعضلات الوطنية الداخلية تبدو عسيرة الحل دون اللجوء الى القانون الدولي، والذي اصبحت قواعده من المصادر الملزمة للمنظومات القانونية لدول العالم المتحضر. في هذه الظروف بالذات، حيث يجد العراق نفسه امام اشكالات كثيرة وبالغة التعقيد، تكون العودة الى موروث الشعوب الاخرى وتجاربها امرا بالغ الاهمية. والموضوعة المطروحة هي الحلقة الاولى من سلسلسة مقالات ستكون التالية منها مخصصة لموضوعة التكامل السياسي بين اقاليم الدولة الفيدرالية، فيما ستتناول الاخيرة التكامل القانوني.
ليس من الصعب، وخصوصا بالنسبة للباحثين والمتخصصين في مجال الدولة والحق، ملاحظة التوجه العام للبشرية، والمتمثل بالسير نحو التكامل والاتحاد وبناء الدول البسيطة، والذي لا يعني البتة التأسيس للمركزية المفرطة، كما يحلو لبعض السياسيين، سواءا بقصد او لعدم دراية، الايحاء بان تعزيز سلطة الدولة المركزية يعني بالضرورة تكوين الدول الشمولية والشديدة المركزية. فالمتتبع لتاريخ تطور اعظم واقوى فيدرالية في العالم، وهي الولايات المتحدة الامريكية سيلمس دون عناء تعزيز التوجهات المركزية، وبالشكل الذي لا يفقد مكوناتها الاساسية (ولاياتها) حرية ممارسة شؤونها الداخلية، والاسهام في رسم وتفعيل السياسة العامة للدولة من خلال آليات معروفة، ربما يقف في المقدمة منها اجهزة السلطة العليا، حيث التمثيل المتكافئ للولايات (مجلس الشيوخ). وليس ابعد من ذلك التجربة الالمانية في تعزيز مركز الدولة الفيدرالية، فبالرغم من ان العرف القانوني وقواعد القانون الاساسي للدولة ذهبا الى التاسيس لما بات يطلق عليه الفيدرالية التعاونية، والتي تفترض استقلالية واسعة لاقاليمها (اراضيها)، بالرغم من ذلك فان خطوات التكامل للبلدان الاوربية، من خلال الاتحاد الاوربي تدفع دول الاتحاد، التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة، ومنها المانيا، تعزيز اجهزتها المركزية للاقتراب اكثر من الشكل البسيط للدولة. ليس هذا فحسب، بل ان موجة تعزيز المركزية استطاعت، وبسهولة كبيرة، الحد من اكثر الحركات الانفصالية تطرفا في اوربا (كندا مثالا). ودخلت واحدة من اكبر الدول الفيدرالية واكثرها تعقيدا من ناحية التنوع الاثني والديني والطائفي….الخ، وهي روسيا الفيدرالية، دخلت القرن الحادي والعشرين بخطوات كبيرة نحو تعزيز مركزية الدولة، كان الاهم من بينها تقسيم الدولة الى سبع دوائر كبيرة تضم الواحدة منها مجموعة اقاليم شديدة التنوّع، فيما يرتبط مسؤول كل دائرة بهرم السلطة المركزية (رئيس البلاد). وهنا تجدر الاشارة الى ان الاعوام القليلة الماضية شهدت موجة لتوحيد الاقاليم، وخصوصا في الشمال الروسي وما خلف الاورال، ما يدفع الى تعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي للدولة الروسية.
ولتسهيل عملية التكامل الاقتصادي والتعايش الحر بين مواطني مختلف اقاليم الدولة الفيدرالية تذهب تشريعات الفيدراليات المعاصرة الى الغاء القيود على حركة الافراد والبضائع ورؤوس الاموال، فيما يحظر على سلطات الاقاليم ممارسة اي نوع من انواع التعسف بحق سكان الأقاليم الاخرى. فالفقرة الحادية عشر من التعديل السابع لدستور الولايات المتحدة تنص على انه ” لا ينبغي على اي من الولايات سن او اصدار القوانين التي من شأنها الحد من امتيازات مواطني الولايات المتحدة الامريكية …..وسلب حرية المواطنين واملاكهم بدون سند او اجراء قانوني…”. ويمكن العثور على قواعد مماثلة في الدستور الكندي والذي اضاف ان “كل مواطن وكل من يمتلك محل اقامة دائمة في كندا يتمتع بـ (أ)- حرية التنقل واختيار مكان للاقامة في اي من محافظات الدولة. (ب) – العمل في اي من محافظات الدولة.” لكن المشرع الكندي منح الحق لسلطات المحافظات خرق الفقرة الاخيرة (ب) في حال ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل في المحافظة عن مستوى البطالة في الدولة بشكل عام (الفصل السادس من لائحة الحقوق والحريات لعام 1982).
وربما كان التشريع الدستوري الفيدرالي لجمهورية النمسا الاكثر تحديدا في هذا الموضوع، حيث نص على ان ” مساحة الدولة تشكل وحدة متكاملة في مجال العملة والعلاقات الجمركية والاقتصادية. ولا يمكن وضع قيود جمركية او غيرها مما يعيق حركة المواصلات (المادة 4). وان ” كل مواطن في اي من الاقاليم (تسمى الاراضي في النمسا) يمتلك ذات الحقوق ، وعليه ذات الالتزامات كما مواطني ذلك الاقليم”. (الفقرة 3 من المادة 6). وذهبت بعض دساتيرالدول الفيدرالية الى منح اقاليم الدولة امكانية اتخاذ بعض الاجراءات ومنها، على سبيل المثال، منع سكان الاقاليم الاخرى من مزاولة بعض الاعمال، وفرض بعض الضرائب المحلية، ووضع بعض الشروط على الشركات والافراد لممارسة النشاط الاقتصادي في الاقليم. غير ان تلك الاجراءات لا ينبغي ان تحمل طابعا تعسفيا، وان لا تتقاطع مع التشريع الفيدرالي (الاتحادي)، وان يكون لها ما يبررها، مثل الحفاظ على البيئة، وشروط الحجر الصحي لمنع انتشار الاوبئة والامراض المعدية، والحفاظ على الممتلكات العامة وامن المواطنين …وغيرها.
وتعتبر المركزية واحدة من السمات الجوهرية في علاقة الدولة الاقتصادية مع اقاليمها. ففي الكثير من مجالات الحياة الاقتصادية تسعى التشريعات الاتحادية الى اعتبار المفاصل الرئيسية في اقتصاد الدولة من الاختصاصات الحصرية لاجهزة السلطة المركزية، تاركة لسلطات الاقاليم المفاصل التكميلية في العملية الاقتصادية، مثل انتاج الثروات الطبيعية لسد احتياجات سكان الاقليم واسواقه الداخلية. مع ان قواعد الدستور والعقود الفيدرالية تحيل بعض جوانب الحياة الاقتصادية الى الاختصاصات المشتركة، الأ ان تلك الاختصاصات عادة ما تحتل المرتبة الثانية، بعد اختصاصات المركز الحصرية. وهذا ما يمكن العثور عليه في المادة (71) من الدستور الروسي لعام 1993، والتي ذهبت الى تثبيت الاختصاصات الحصرية للمركز ومنها: ادارة الملكية العامة للدولة (الفقرة ج). وضع اسس السياسة والبرامج الفيدرالية في مجال الاقتصاد والبيئة والاجتماع …الخ.(الفقرة ح). وضع الاسس القانونية لوحدة السوق والوحدة المالية، بالاضافة ادارة المال العام والجمارك، ووضع اسس سياسة الاسعار، وادارة جميع المؤسسات الاقتصادية، بما في ذلك البنوك الفيدرالية (الفقرة خ). والميزانية الفيدرالية، والضرائب الفيدرالية، وصناديق تطوير الاقاليم (الفقرة د). ومنظومات الطاقة الكهربائية الفيدرالية، والطاقة الذرية، ومنظومة الاتصالات والطرق والمواصلات الفيدرالية والنشاطات في مجال الفضاء (الفقرة ذ). وبتكراره لبعض من الفقرات الواردة، ما عدا منظومة الطاقة الذرية والفضاء واستخدامات الصناعات الكيمياوية وما على شاكلتها، اقول بتكرار تلك الفقرات في المادة التالية (72) والخاصة بالاختصاصات المشتركة، لم يترك المشرع الروسي للاقاليم ما يمكن اعتباره هاما وستراتيجيا بالنسبة للدولة، ذلك ان المادة (73) اعتبرت كل ما لم يذكر في المادتين السابقتين (الاختصاصات المتبقية بلغة القانون الدستوري) من الاختصاصات الحصرية للاقاليم. وهنا تجدر الاشارة الى ان تطبيقات القواعد الدستورية انفة الذكر وجدت تجلياتها في القانون الفيدرالي “حول الخيرات المادية” لعام 1995 مع تعديلاته الكثيرة، والتي ذهبت الى تعزيز سلطة المركز على الخيرات المادية للدولة. اما في العراق فيبدو من الصعوبة بمكان اعطاء رأي قانوني بخصوص العلاقة التي من الممكن ان تنشأ بين السلطات المركزية وسلطات اقليم كردستان، والاقاليم المزمع تكوينها، وكذلك المحافظات التي سوف لن تنتظم باقليم، وذلك لغياب التشريعات الناضمة لتلك العلاقة. في حين لا ترقى القواعد التي تضمنها دستور العراق الدائم الى مستوى تنظيم علاقات على هذا القدر من الاهمية.
ان واحدة من المعضلات التي واجهت، وما تزال تواجه، البلدان التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة هي تمركز الخيرات المادية في مناطق من الدولة وافتقار مناطق اخرى لها، ما يجعل من التمايز في مستوى التطور الاقتصادي بين اقاليم الدولة الفيدرالية امرا واردا، مع كل ما يترتب على ذلك من تعزيز مكانة دور الاقاليم الغنية في مراكز صنع القرار، والتي عادة ما تلجأ الى “شراء” مواقف الاقاليم الضعيفة، وخصوصا اذا ما تطلب الامر تحديد موقف من هذه القضية او تلك خلال التصويت في اجهزة الدولة العليا، او في اوقات المنعطفات السياسية الهامة مثل الانتخابات والاستفتاءات وابرام العقود والاتفاقيات….الخ. وهنا تجدر الاشارة الى ان البلدان الفيدرالية المتقدمة تحاول ردم الهوة بين الاقاليم الغنية والفقيرة من خلال تقديم المساعدات المالية، واقامة المشارع التنموية المختلفة، واعفاء تلك الاقاليم من الضرائب…الخ. وربما كان التشريع الالماني الاكثر تفصيلا في هذا الجانب، حيث اشارت الفقرة 4 من المادة 106 من دستور المانيا الفيدرالية لعام 1949 الى قيام “الفيدرالية بتقديم المساعدات المالية اللازمة للاراضي (الاقاليم) لتغطية المصاريف الهامة، وذلك بهدف الحفاظ على التوازن الاقتصادي والحيلولة دون بروز فوارق اقتصادية في الدولة…” ، وتكتسب المادة (109) اهمية استثنائية حيث تشير الى ان “على السلطات الفيدرالية وسلطات الاراضي الاخذ بعين الاعتبار متطلبات التوازن الاقتصادي العام اثناء تنفيذهم للميزانية”. ما يؤكد الدور الكبير للتكامل الاقتصادي بين مكوّنات الدولة الفيدرالية في الحفاظ على وحدة الدولة وتنمية اقاليمها المختلفة.
عند الحديث عن التكامل الاقتصادي بين اقاليم الدولة الفيدرالية لابد من الاشارة الى واحدة من المسائل التي اصبحت مثار جدل بين الباحثين ورجال الدولة والقانون، وكانت سببا في اثارة خلافات وصلت، في الكثير من الاحيان، الى نزاعات مسلحة، الا وهي نزوع اقاليم الدولة الفيدرالية الى اقامة علاقات، اقتصادية بالدرجة الاولى، مع الدول الاجنبية، دون التنسيق مع المركز الفيدرالي، الامر الذي يشكل خرقا لواحد من اسس الدولة، وهو مبدأ السيادة. من هنا ذهاب جميع تشريعات الدول الفيدرالية على الاطلاق الى اعتبار العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول الخارجية من الاختصاصات الحصرية للسلطات المركزية، او ادراجها ضمن الاختصاصات المشتركة، الامر الذي يؤمن الاشراف المباشر من قبل المركز على تنظيم تلك العلاقات، ويسد الطريق على اختراق الامن الاقتصادي للدولة. ويبدوا الامر اكثر حساسية في البلدان ذات التعددية القومية والطائفية، وتلك التي (تزدهر) فيها بدائل الدولة (المجموعة الاثنية والمليشيا والعشيرة….الخ)، اي كل ما يمكن ان يتخذ، في المنعطفات التاريخية، من العنصر الاجنبي مرجعية له.
انني ارى ان اشراك اقاليم الدولة الفيدرالية في رسم الخطوط العامة لسياسة الدولة الاقتصادية، واسهام الاقاليم في تنفيذ تلك السياسة من خلال ممثليها في جميع مفاصل الدولة (المركزية منها والمحلية) ينبغي ان يقابل بالتزام الاقاليم بالحفاظ على سيادة الدولة وحماية وحدتها الاقتصادية.. #
# عن الحوار المتمدن…