نـظرة قـانونيــة: وحـدة السلطــة ومبــدأ الفصــل بيــن السـلطـات فــي الدولــة الفيدراليــة
نـظرة قـانونيــة: وحـدة السلطــة ومبــدأ الفصــل بيــن السـلطـات فــي الدولــة الفيدراليــة
د. فلاح اسماعيل حاجم
2005 / 1 / 21
مواضيع وابحاث سياسية
يدور الحديث هذه الايام, وعلى مختلف الاصعدة, حول شكل الدولة لعراق المستقبل. و لأن الشكل الفيدرالي للدولة بات يثير اهتمام الكثيرين من السياسيين و الحقوقيين, ارى من الظروري تسليط الضوء على بعض الجوانب الخاصة بالفيدرالية سيما تلك, التي تتميز باهمية استثنائية في جميع مراحل النقاش.
ان وحدة السلطة ومبدأ الفصل بين السلطات تتمتع بخصوصية استثنائية و خصوصا في الدول الفيدرالية, وهذا مرتبط, بالدرجة الاساسية, بوجود منظومتين لاجهزة الدولة. فبالاضافة الى المنظومة الهرمية لاجهزة السلطة الفيدرالية هناك منظومة اخرى لسلطات الاطراف, ربما هي تكرار لتلك الاجهزة ولكن على مستوى اقل من ناحية الضخامة و التركيبة الداخلية وحجم الاختصاصات. وفي جميع الاحوال, فاننا نقف امام خطين متوازيين من اجهزة السلطة في بلد واحد وهذه ؛ دون شك؛ واحدة من الصفات المميزة للدولة الفيدرالية والتي طالما اصبحت موضع نقاش وجدل ليس فقط بين المختصين في مجال القانون الدستوري بل و بين السياسيين والمواطنين الذين يهمهم مستقبل العراق ووحدة اراضيه. ان الفصل بين الاجهزة الهرمية للسلطة يعني وضع الاجهزة الفيدرالية بالشكل الذي يؤمن لها الاشراف على الاجهزة المماثلة في اطراف الفيدرالية حيث تقوم سلطات الاطراف بالتنازل طوعا (وفي بعض الاحيان تكون مجبرة على ذلك) عن بعض من صلاحياتها لصالح اجهزة السلطات الفيدرالية. ان هذا النوع من ترتيب العلاقات بين السلطات الفيدرالية و سلطات الاطراف (الامارات, الولايات, المقاطعات, الاقاليم…الخ) وجد تجلياته في الاتحادات التي أنشئت بقرارات او مراسيم فوقية او عن طريق الضم القسري للاراضي. ان الصلاحيات التي يتم التنازل عنهاطوعا او اكراها لا تعدو ان تكون ثمناً تدفعه الدولة الضعيفة و المضطرة في اغلب الاحيان للتنازل عن سيادتها وتخويل سلطات الفيدرالية القيام ببعض اختصاصاتها. وهنا لابد من الاشارة الى ان تلك الاطراف , والتي كانت يوما ما تحت مضلة السلطة المركزية للدولة الفيدرالية يمكنها اللجوء السريع الى قطب اخر في حالة ضعف او انهيار قطبها الاول؛ وهذا ما يمكن ملاحظته في سياسات الجمهوريات السابقة للفيدرالية السوفيتية (الاتحاد السوفيتي) سواءأ الاوربية منها او الاسيوية ؛ التي تسعى في الوقت الراهن للدخول في احلاف عسكرية وسياسية لدول اكثر قوة من الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي (روسيا الفيدرالية).
ان التطبيقات العملية لنظرية وحدة السلطة في شكلي الدولة (الفيدرالي و البسيط) تجلت باشكال مختلفة وخضعت لتعديلات في فترات زمنية متباينة. ففي القرون الوسطى (وفي بعض الدول الى يومنا هذا) فهمت تلك الوحدة على انها تمركز للسلطات بأيدي المقام الاسمى في الدولة اي الرئيس؛ فيما تحولت السلطة الى مؤسسة مقدسة يصنف المساس بها على انه من الكبائر. وهنا يكمن تبرير وجودالملكيات المطلقة وخصوصا الثيوقراطية منها و القادة الرموز في الدول الفاشية و الرؤساء مدى الحياة في الجمهوريات الشرق- اوسطية المعاصرة. اما في دول اخرى فقد اختزلت وحدة السلطة في مؤسسة واحدة هي الحزب القائد. وفي تطوير لنظرية وحدة السلطة ربط بعض المفكرين تلك الوحدة بمسألة السيادة الوطنية؛ ولان السيادة تعتبر ملكاً مقدسا للشعب يكون من غير الممكن التجاوز عليها و تجزئتها. اما نشاطات اجهزة الدولة التشريعية و التنفيذية و القضائية فما هي الأ تطبيقات او تجليات لسلطة الشعب الواحدة. وهنا لابد من الاشارة الى ان الافكار الواردة اعلاه استثمرت من قبل الليبراليين وان باشكال مختلفة. ففي حين رآى الماركسيون في تلك الوحدة وحدة للشعب العامل ( ممثلاً بالبروليتاريا) والتي لابد ان تقود الدولة من خلال مؤسسات موحدة من القمة الى القاعدة (المجالس-السوفيتات) حيث وجدت هذه الافكار انعكاساتها في شعارات الاحزاب القائدة وبرامجها اولاً ( كل السلطة للسوفيتات) ومن ثم في المنظومة القانونية للدولة مثل الدستور و القوانين و الاتفاقيات و مراسيم رئيس الدولة…الخ. ويلاحظ ان هذه الظاهرة لا تقتصر على الدول الاوربية وخصوصا الشرقية منها؛ فدساتير الدول النامية في اسيا و افريقيا و امريكا اللاتينية وخصوصا ذات التوجه الاشتراكي تتضمن الكثير من المواد التي تكرس تلك المفاهيم.
ان تجربة البلدان سواءا الفيدرالية منها او البسيطة تؤكد بأن دمج السلطات له تاثيرات سلبية على اداء اجهزة الدولة وخصوصا القضائية منها و اجهزة الرقابة و الادعاء العام اذ سلبت اختصاصات تلك الاجهزة من قبل الاجهزة الحزبية التي تدير او تشرف على ادارة عمل (المجالس-السوفيتات).
عند الحديث عن وحدة السلطة لابد من الاشارة الى ان الاخلال بالوحدة الاجتماعية و خصوصا في الدولة الفيدرالية؛ اي عند سيادة قوى اجتماعية غير متجانسة من النواحي الاقصادية و السياسية وحتى من الناحية العقائدية (الدينية) سيؤدي (الاخلال) الى خرق التوازن مما يفضي ؛ في اغلب الاحيان؛ الى مواجهات مسلحة تخلف اثارا سلبية ولفترات طويلة. ويمكن اعتبار الحرب الاهلية في الولايات المتحدة (1861-1865) مثالا لذلك حيث وجد الجنوب العبودي بعلاقاته الاقطاعية و الشمال البرجوازي بعلاقاته الرأسمالية نفسيهما في اطار فيدرالي واحد؛ ولم ينقذهما الدستور الاكثر ديمقراطية في العالم. وقد شهدت سنوات السبعينات من القرن الماضي نزاعات دموية على خلفية الفوارق الاجتماعة و الدينية في جمهورية النيجر الفيدرالية حيث اعلنت الولايات الشمالية الشريعة الاسلامية مصدرا للتشريع في دولة متعددة الاثنيات و الاديان. ولا يشذ عن هذه القاعدة النزاع المسلح الدائر حاليا بين المركزالفيدرالي و اجهزة السلطة لجمهورية الشيشان في روسيا الفيدرالية.
ان وحدة السلطة في الدولة الفيدرالية و اطرافها تتجلى ايضا في وحدة الاهداف و التوجهات و التنسيق بين اجهزة الدولة المركزية واجهزة الاطراف؛ اذ ان منظومة الاجهزة سواءا الفيدرالية منها او اجهزة الاطراف تنفذ من حيث المبدأ واجبات ذات طبيعة واحدة.
ان الاهداف و التوجهات و اشكال نشاط اجهزة السلطة الفيدرالية وسلطات الاطراف لا يمكن ان تكون متطابقة في جميع الاحيان؛ فالكثير منها يمكن ان تتقاطع وخصوصاً في خضم الصراعات الداخلية منها (صراع الطبقات و الصراع القومي وكذلك صراع الاديان و المذاهب” نيجيريا مثالا”) و الخارجية (صراع الدولة مع بلدان الجوار او صراع القوى الدولية من اجل مواقع نفوذها الجيو- سياسية “جورجيا والعراق مثالا”). وبهذا الخصوص لابد من التأكيد على الخلافات ذات الطبيعة الاقتصادية؛ حين تعمد السلطات المركزية (الفيدرالية) الى محاولة معالجة مشاكلها الاقتصادية على حساب الخيرات الطبيعية للاطراف (النفط و الغاز ؛ الحديد و الصلب….الخ) فيما ترى الاطراف في ذلك ابتزازا لها من قبل المركز؛ لكن السلطات الفيدرالية ترى فى القانون الاساسي للدولة سندا قويا حيث احال الدستورمسائل مثل التصرف بالموارد الطبيعية ورسم السياسة الاقتصادية للدولة وتوزيع الموارد بين الفيدرالية و اطرافها الى الاختصاصات الحصرية للسلطات المركزية. من هنا وجدت بعض الدول في الاتفاقيات الثنائية حلا لهذه الاشكالية حيث تقوم السلطات المركزية بمنح الاطراف الغنية بعض الامتيازات قياسا بالاطراف الاخرى مما يعتبر خرقا لواحد من اهم المبادئ في العلاقات الا وهو مبدأ المساوات في الحقوق و الالتزامات.
ولابد من الاشارة ايضا الى واحدة من الاشكاليات التي طالما كانت سببا للجدل والخلافات بين السلطات المركزية وسلطات الاطراف وهي مسألة احتواء المنظومة القانونية لاطراف الفيدرالية اي الدستور والتشريعات و اللوائح الاخرى على قواعد قانونية مناقضة لقواعد الدستور الفيدرالي مما يخلق تنازعا للقواعد الدستورية و يؤدي بالنتيجة الى بروز ما يمكن ان نطلق عليه فوضى القوانين.
ان تحليلا بسيطا لتجليات مبدأ الفصل بين السلطات في الظروف المعاصرة ترشدنا الى مداخل نظرية وعملية جديدة لهذا المبدأ من بينها؛ على سبيل المثال؛ فكرة توازن السلطات من خلال (منظومة الكبح و الموازنة) اي عن طريق ايجاد آليات تمكن السلطة التشريعية من مراقبة نشاطات السلطة التنفيذية فيما تمنح الاخيرة ممثلة برئيسهااستخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرارات السلطة التشريعية في حين تقف السلطة القضائية كحكم بين الطرفين. ولم يكتف المشرعون بالسلطات الثلاث المعروفة بل ذهب البعض منهم الى الاشارة الى سلطة الرقابة المستقلة (مفوض حقوق الانسان في الكثير من الدول او مراقب الدولة وغيرها من التشكيلات المختلفة) وقد ذهب المشرع المصري الى تظمين الدستور فصلا كاملا عن سلطة الصحافة ( الفصل الثاني- المواد من 206 الى 211).
استنادا الى ما تقدم يمكننا ان نخلص الى نتيجة وهي ان من الضروري تأمين وحدة السلطة في الدولة الفيدرالية وذلك من خلال الفصل الافقي للسلطات (تشريعية- تنفيذية- قضائية) من جهة؛ ومن جهة اخرى الفصل العمودي وذلك بتوزيعها الى سلطات مركزية و اخرى للاطراف مع تأمين تنفيذ قرارات السلطات المركزية من قبل الاخيرة في ظل قوانين تضمن مبدأ المساوات بين المركز والاطراف سيما وان الهدف الرئيسي لاقامة الفيدرالية يكمن في تأمين الحقوق القومية في البلدان متعددة القوميات وتحقيق نوعا من الادارة الذاتية مما يؤمن تطورا ديناميكيا للدولة الفيدرالية ككيان واحد.
(م/ هذه المادة معدلة عن مقالة نشرت للكاتب في الصحافة العراقية)… #
#. عن الحوار المتمدن….