الاقتصادية

نقد مقولة نهاية التاريخ

نقد مقولة نهاية التاريخ

د. سمير أمين

2020 / 11 / 22

يتصدى النظام السائد عالميا إلى عدد من التناقضات التى ظهرت منذ نشأته والتى لم يفلح النظام أن يلغيها أبداً. بل أخذت هذه التناقضات فى التفاقم المتزايد بالموازاة مع إنجازات النظام التنموية.

يتعارض الإطار الذى يعمل فيه تراكم رأس المال مع المصالح الأساسية للإنسانية فى غالبيتها، وذلك من زوايا ثلاث:

أولاً: يناقض إخضاع الطبقات العاملة لمقتضيات الربحية ميول الإنسان فى أن يصبح سيد مصيره. وقد واجهت هذه الطبقات التحدى فى نضالها، ففرضت إلى حد ما تكييف آليات التراكم وقواعدها لمصالحها جزئياً على الأقل، وذلك من جانبين اثنين.

أولهما، هو توزيع ثمار النمو، حيث فرضت هذه النضالات فى بعض الظروف رفع عوائد العمل – فرادى وجماعياً – بالموازاة مع تزايد الانتاجية. وثانيهما، هو توظيف مبادىء الديمقراطية من أجل توسيع نطاق عملهما، كى تشمل مجالات اجتماعية لم تكن فى الأصل مقصودة فى ممارسات الديمقراطية السياسية المحيطة. فليست الإجابات الديمقراطية والإصلاحات الاجتماعية فى مواجهة النظام الناتج الطبيعى لفعل منطق التوسع الرأسمالى، بل على العكس من ذلك هى إجابات فرضت نفسها فى تضاد مع منطق التراكم. على أن هذه الإنجازات لم تنتج أبداً حلولاً نهائية للمشكلة، بل أدت إلى احتدام التناقض من مرحلة إلى التالية. ولعل الشعوب تميل اليوم إلى أكثر من مجرد تحسين ظروف معيشتها المادية وضمان قدر من حقوق الإنسان، فصارت طموحاتها تستهدف السيادة على القرار المجتمعى سيادة حقيقية. أى بكل بساطة، تذهب إلى التحرر من جوهر الاستلاب الاقتصادى المفروض عليها. علماً بأنه يتعذر استمرار النظام الرأسمالى إذا استبعد فعل هذا الاستلاب – فالمعايير والمراجع التى يقوم عليها منطق العقلانية الاقتصادية لا يمكن أن تفعل فعلها نظرياً وعملياً إلا بقدر مايخضع المجتمع للاستلاب المذكور.

ثانياً: تتعارض قواعد الحساب الاقتصادى مع مقتضيات ضمان مستقبل الحياة على الكرة الأرضية بشكل متصاعد. فتقوم هذه القواعد على منطق قصير الأجل، ولا تمتد آفاق حساب الربحية إلى أكثر من عشرة أو خمسة عشر عاماً. هذا بينما تتطلب مواجهة المشاكل المترتبة على تدهور ظروف البيئة أخذ الأجل الطويل فى الاعتبار اعتباراً حقيقياً. علماً بأن نمو قوى الإنتاج (وهو فى الآن نفسه نمو قوى تدمير البيئة) قد بلغ حداً من الخطورة غير مسبوق فى التاريخ.

ثالثاً: أخذ فى التصاعد أيضاً الاستقطاب الذى يتمثل فى التضاد بين ثروة المراكز والفقر المتفاقم فى الأطراف مما ليس ناتجا عن ظروف خاصة بمختلف مناطق العالم – كما تدعيه الايديولوجيا السائدة – بل هو ناتج عمل التوسع الرأسمالى فى حد ذاته، إذ أن التوسع يقوم على عولمة سوق المنتجات ورءوس الأموال دون أن يصاحبها اندماج أسواق العمل التى تظل متفتتة ومحبوسة فى أطر الدول السياسية القائمة.

فالسؤال اليوم هو الآتى: بما أن بعض الأطراف قد دخلت بدورها فى مرحلة التصنيع بعد الحرب العالمية الثانية، وخطت خطوات واسعة فى إنماء قدرة المنافسة فى الأسواق العالمية على هذا الأساس، هل من شأن هذا التطور أن يخفف تدريجياً شدة ظاهرة الاستقطاب؟ أم أن عمل ما سميته «الاحتكارات الخمسة» التى تستفيد منها المراكز فى ظروفنا الراهنة (وهذه الاحتكارات تخص مجالات النظم المالية المعولمة والبحث التكنولوجى والحصول على الموارد الطبيعية والسيطرة على وسائل الاتصال وإنتاج أسلحة التدمير الشامل) من شأنه أن يضفى على قانون القيمة العولمة قوة استقطابية متجددة مقوية مضاعفة.

هذا وقد لاحظت أيضاً أن هذا التناقض الثالث هو الذى أنتج أقوى ردود الفعل فى مواجهة التوسع الرأسمالى. إذ أن جميع الثورات الاشتراكية التى حدثت إلى الآن قد نشأت أولاً عن حركات رفض النظام من قبل الشعوب ضحايا التوسع الرأسمالى.

يتجاهل الخطاب الايديولوجى السائد هذه التناقضات تجاهلاً شاملاً؛ وذلك من حيث المبدأ إذ إنها تناقضات لا يمكن أن تجد حلاً لها على أساس القواعد الحاكمة فى الرأسمالية. وبالتالى كان الاعتراف بها من شأنه أن يلغى وظيفة الخطاب المذكور، وأن يثبت الطابع التاريخى – أى غير الدائم الأبدى – للنظام الرأسمالى. فلا بد أن تتحرر ايديولوجيات الحكم من ناموس التاريخية حتى تكرس ادعاءها بأبدية النظام، من خلال الاعتماد على منظومة قيم عبر تاريخية.

وفى بعض الأحيان، تتخذ هذه الايديولوجيا عبر التاريخية شكلاً ساذجاً. على سبيل المثال يكتب فرنسيس فوكوياما “لقد توصلنا إلى نهاية الطريق فى تطور ايديولوجيات الإنسانية، فيمثل نمط الديمقراطية الليبرالية الغربية الشكل النهائى لنظام الحكم” (بالحرف!).

ثم يكتب مايلى (بالحرف): « لايوجد تناقض أساسى واحد لا يمكن حله فى إطار الليبرالية الحديثة»! وذلك دون أن يلقى نظرة إلى واقع الدنيا التى يعيش فيها.

لقد فات هذا السيد أن فكرة نهاية التاريخ التى يعتقد أنها مبتكرة هى فى واقع الأمر فكرة قديمة قدم الإنسانية. فالايديولوجيات السائدة هى دائماً محافظة من حيث المبدأ، إذ إن إعادة إنتاج المجتمع التى تدعو إليها تتطلب بالضرورة أن يرى النظام نفسه أبدياً. وتشترك فى هذا الطابع جميع الايديولجيات المهيمنة. فمثلاً، اتخذت الايديولوجيات السائدة فى عصور النظم الجماعية، للمرحلة الأولى من تطور الإنسانية، طابعاً أبدياً لعلاقات القرابة. ثم كرست ايديولوجيات العصر التالى فكرة نهاية التاريخ، اعتماداً على العقيدة الدينية. ألا ترى هذه العقائد نفسها على أنها تقدم إجابات «نهائية»؟ فالعقيدة الدينية هى الوسيلة التى كانت تضفى مشروعية لفكرة نهاية التاريخ فى الماضى. أما اليوم، فى عالم الرأسمالية، وبما أن مرجعية المشروعية الاجتماعية أصبحت تقوم على الفعالية الاقتصادية فيلجأ الخطاب السائد إلى نسب طابع أبدى لقوانين السوق حتى يكرس فكرة نهاية التاريخ. ولم يدرك فوكوياما، ولا غيره من مروجى الخطاب السائد أن انتقال مرجعية المشروعية من مجال العقيدة الدينية إلى مجال الفعالية الاقتصادية، إنما هوفى حد ذاته انعكاس لتحول آخر، تم فى باطن هيكل النظام الاجتماعى، فأدى إلى هيمنة الاقتصاد فى إعادة إنتاج المجتمع، حتى احتل المجال الاقتصادى مكانة العقيدة الدينية، وأصبح مجالاً مهيمناً، كان من الممكن وصف المجتمع القديم بالقول الجزافى «إن الدين يحكم الكل» بينما نقول بالنسبة إلى المجتمع الحديث «إن الاقتصاد يحكم الكل».

أزعم أن الخطوة الأولى فى التحليل العلمى للمجتمعات هى بالتحديد إلقاء الشك على النظرة التى يرى المجتمع نفسه من خلالها. أى عدم الاكتفاء بالنظرة التى ترى المجتمعات الجماعية نفسها من خلال قواعد القرابة، وكذلك التشكيك فى النظرة التى يرى المجتمع الاقطاعى نفسه من خلال العقيدة الدينية. وبالتالى أيضاً، إبداء الشك فى نظرة المجتمع الحديث لنفسه من خلال قوانين السوق. فالتساؤل العلمى يبدأ بطرح آخر، والبحث عن الأسباب التى تنتج هذه النظرات المستلبة المتتالية. يبلغ الخطاب السائد ذروة زخمه فى دمج تلفيقى لعدد من «القيم» التى تعزى للحداثة، ثم الدفاع عنها كأنها كل موحد.

ونجد هنا خلطة عجيبة تجمع مبادىء تخص نظام الحكم السياسى مثل دولة القانون وحقوق الإنسان وممارسات الديمقراطية الانتخابية، ومبادىء تحكم الحياة الاقتصادية – مثل حرمة الملكية الخاصة وحرية عمل آليات السوق. فيقوم دمج هذه المبادىء مع بعضها بوظيفة مهمة، هى الإلهام بأنها تشكل وحدة لا تتجزأ، نابعة من منطق واحد، الأمر الذى يتيح القول بأن ممارسات الرأسمالية والديمقراطية ترادف بعضها البعض. بيد أن التاريخ يثبت أن العكس هو الأقرب إلى الصحة. ففى التاريخ الحقيقى نتجت الإنجازات الديمقراطية عن صراعات اجتماعية ناقضت منطق النظام. وبالتالى فإن فصل العناصر التى تدمجها الأيديولوجيا السائدة هو شرط أساسى لكون التحليل الاجتماعى ذا طابع علمى.

وفى هذا السياق، أزعم أن التحدى الحقيقى الذى يتصدى له المجتمع يتلخص فى مقولة مفادها ضرورة تجاوز حدود الرأسمالية من أجل ضمان بقاء الإنسانية – فالخيار الحقيقى قد أصبح كالآتى: إما أن تتيح النضالات الاجتماعية تجاوز منطق آليات الرأسمالية، وقوانينها، وإما, فى غياب ذلك , أن يؤدى فعل هذه الآليات إلى انتحار جماعى للإنسانية وتدمير الكرة الأرضية. كانت النظم القديمة السابقة على الحداثة قد امتدت على آلاف الأعوام قبل أن تنفذ قدرتها التاريخية الاحتمالية. ثم أخذ النمو فى التعجل فى عصر الحداثة بمعدلات غير مسبوقة – كأن الرأسمالية ستمثل فى نهاية المطاف مرحلة تاريخية انتقالية قصيرة نسبياً، تم خلالها إنجاز التراكم الذى خلق بدوره شروط تحقيق نظام اجتماعى أفضل قائم على عقلانية متحررة من قيود الاستلاب الاقتصادى وعلى إنسانية عالمية صحيحة. أقصد بهذا القول أن الرأسمالية قد أنهت دورها التاريخى الإيجابى فى زمن قصير، فلم تعد الوسيلة التى يتم التقدم من خلالها، ولو بدون وعى من قبل المجتمع.

لذلك يبدو لى أن تاريخ الرأسمالية يتكون من مراحل متتالية متباينة، بعضها يتصف بتحكم قوانين التوسع الرأسمالى يكاد يكون مطلقاً، تليها مراحل متباينة تماماً، حيث يفرض فعل قوى اجتماعية ذات عقلانية مضادة لعقلانية الرأسمالية أشكال تنمية أكثر رحمة للإنسان وللبيئة.

ينتمى القرن التاسع عشر إلى النوع الأول من المراحل المتتالية للتوسع الرأسمالى. فكانت ظواهر البلترة والاستعمار الكولونيالى قد اتخذت خلال هذه المرحلة أشكالاً مدمرة متوحشة – على أن هذا التوسع لم ينتج ذلك الرواج المطرد الذى قالت به ايديولوجيا النظام، بل أدى إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، وإلى الثورات الاشتراكية. وإلى التحرر الوطنى فى المستعمرات. وبعد الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من خروج روسيا السوفيتية من المنظومة الرأسمالية، استطاع النمط الليبرالى التقليدى أن يعود ليسود فى بقية العالم، الأمر الذى أنتج بدوره مزيداً من الفوضى، ثم أدى إلى الإجابات الوهمية والإجرامية التى مثلتها الفاشستية.

فكان أن ننتظر سقوط هذه الأخيرة كى تتبلور – انطلاقاً من عام 1945 – سمات من توسع جديد قائم على رأسمالية «متحضرة» فرضتها القوى الثلاث التى تجلت فى الاشتراكية الديمقراطية والسوفيتية وحركات التحرر الوطنى، وذلك من خلال أشكال من التسوية الاجتماعية الخاصة بها. لم تكن الحلول التى تجلت فى هذه الظروف بمثابة خروج شامل من إطار منطق الرأسمالية، بل أزعم أن الثورة الروسية عينها لم تقطع تماماً علاقاتها مع قواعد عقلانية الرأسمالية. فقلت بهذا الصدد، إن هذه الثورة أدت فى نهاية المطاف إلى مشروع «رأسمالية دون رأسماليين». على أن هذه التكتلات الاجتماعية الثلاثة قد فرضت بالفعل شروطاً وضعت بدورها حدوداً على تفاقم التناقضات المترتبة على الاستغلال الاقتصادى والاستقطاب على صعيد عالمى – بيد أن فعالية هذه الحلول، بين منطق الرأسمالية الخالص من جانب واعتبار مصالح اجتماعية متناقضة معه من الجانب الآخر، قد تآكلت بالتدريج، بسبب انجازات المشروعات المجتمعية القائمة على أساسها، لا بسبب «فشلها» كما يقال عادة. فسقطت مشروعية النظم بقدر ما أخذت التنمية المحققة فى إطارها تفقد زخمها، الأمر الذى خلق ظروفاً ملائمة لعودة خطاب الليبرالية بغطرسة، وإعلان «نهاية التاريخ» مرة أخرى. إلا أن النظام الجديد القائم على تحكم السوق تحكماً مطلقاً قد أنتج فى زمن قصير مزيداً من الفوضى وتفاقم التناقضات التى تجلت فى احتدام ظواهر الفقر والاستقطاب على صعيد عالمى وعلى الأصعدة القطرية فلا بد أن تثور الشعوب ضحايا هذا الوضع المؤلم. وبالفعل بدأت حركات التمرد تنفجر هنا وهناك.

تبقى الأسئلة الحقيقية هى الآتية: هل ستؤدى حركة التمرد إلى بلورة مشروعات مجتمعية عقلانية على قدر التحدى؟ وماهى سمات التسويات الاجتماعية الملائمة من أجل إعطاء فعالية لهذه المشروعات؟ وفى فرضية حدوث تطور جذرى فى الصراعات الاجتماعية حولها، هل من شأنه ان يلغى الرأسمالية وأن يحل محلها نظام آخر له ملامح نستطيع أن نرسمها مسبقاً؟.

أزعم أن هذه الأسئلة تظل دون إجابة إلى الآن. لئن مثل تحدى الرأسمالية عنصراً ثابتاً فى التاريخ الحديث – حيث أن التناقضات الثلاثة المذكورة أعلاه بقيت هى هى مادام للنظام طابع رأسمالى بالأساس، إنما الظواهر التى تتجلى هذه التناقضات من خلالها قد تغيرت من مرحلة إلى الأخرى. فهى تناقضات جديدة بهذا المعنى. وبالتالى فإن المبادىء التى تمت تعبئة الجماهير حولها فى مواجهة النظام فى المرحلة السابقة – والتى حددت مضمون الاشتراكية التاريخية والبناء الوطنى فى تلك الأيام – قد فقدت مصداقيتها فى الظروف الجديدة.*

*   عن الحوار المتمدن….

زر الذهاب إلى الأعلى