العدالة التنبؤية
يحتل موضوع العدالة التنبؤية مكانة مهمة لدى الباحثين والمختصين، ولا يقل أهمية عن ذلك لدى السلطات العامة؛ المسؤولة عن تأمين سير مرفق العدالة بفعل التخوف منه أحيانا، وصعوبات تطبيقه أحيانا أخرى أو عدم تقبل وجوده أمام قضاء تقليدي ومحاكم وقضاة لا سلطان عليهم، ثم أي القضاءين أصوب وعدلا نحو اتخاذ القرار أثناء النزاع. وأمام ما تقدم سنحاول بيان العدالة التنبؤية في هذا المقال وكالآتي:
أولا: المقصود بالعدالة التنبؤية
يقصد بالعدالة التنبؤية:- تقنية الذكاء الاصطناعي القائمة على الخوارزميات، المرتبطة بالأدوات الرياضية؛ التي تقوم بتحليل مجموعات كبيرة من قرارات المحاكم، للوقوف على نتائج القرارات وأسبابها في المحاكمة، وإمكانية التحقق من مقدار التعويض في بعض الدعاوي المتخصصة التي تحكم في قراراتها بتعويض للمدعي. وبمعنى أخر بيان مقدار نسبة الأخطاء التي تحتويها القرارات القضائية الصادرة عن العدالة التقليدية (قضاة المحكمة)، في الدعاوي المنظورة من قبلهم مع اتخاذ العدالة التنبؤية وعن طريق – الذكاء الاصطناعي- للقرار في نفس القضية أو أخرى من حيث التعامل مع أساسيات معينة تمهيدا للوصول إلى القرار الصحيح.
ثانيا: الفكرة والتطور والتطبيق
يرجع الفضل في هذه الفكرة إلى الفقهاء ليوفينجر Loevinger و لولر وكورت Kort وLawlor الذين إقترحوا إنشاء علم “جوريميتر” يعرف بإسم “تطبيق المنهج العلمي لدراسة القانون”، وكان غرضه ــ العلم ــ هو “حساب احتمالات القرارات القضائية “، وهذا في سنة 1709 إلا أنها أسست على فكرة الإحتمال دون تسخير الذكاء الإصطناعي واللوغاريتمات اللذان يعتبران أساس العدالة التنبؤية، ثم تطورت الفكرة عن طريق الحقوقي وعالم التكنولوجيا جاك آلو المتخصص بمادة تاريخ القانون في مؤلفه ” التكنيك الفني”، الذي أسس لارتباط العدالة بالتكنولوجيا، بعد ان شهد عصره قفزة في مجال التكنولوجيا وتقنية المعلومات. ويعد الذكاء الاصطناعي حجر الزاوية في العدالة التنبؤية، ففي الولايات المتحدة الأمريكية وبفضل التقدم النوعي في مجال تقنية المعلومات والإيمان بتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي ابتكرت وبذات المجال محامين آليين تقنيين يعملون على تقديم الخدمات بشكل الكتروني من خلال شبكة الانترنت، إلا أن هذه الخدمات لاقت نوع من الصعوبة في الاستمرار بتطويرها في البداية لكون غالبية تكاليفها تقع على كاهل القطاع الخاص من خلال الشركات المطورة لهذه التقنيات، وعلى الرغم من محدودية اشتراك القطاع العام في أمريكا بفرص التطوير الرقمي والتقني إلا السلطات العامة أخذت دورها في برامج التطوير بعد تصاعد الحاجة إلية في المجتمع. ومن التطبيقات الأخرى بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية اهتمت بريطانيا بمسألة العدالة التنبؤية، وأمكان تطبيق قضاء يمارس من خلال الذكاء الاصطناعي وذلك لنجاح الابتكار الذي قام به احد المتخصصين في جامعة لندن من خلال “القاضي الروبوت”، الذي يمارس وظيفة القاضي عن طريق ميزة الذكاء الاصطناعي، حيث تم تجربته واختباره على مجموعة من القضايا التي حقق نسبة نجاح 70%، إذ اصدر قرارات صحيحة على القسم الأكبر من الدعاوي حسب قانون الدولة النافذ فيها عندها أكد الباحثين مستوى نجاح “القاضي الروبوت”، والذي سيحدث ثورة في مجاله . كما تحقق النجاح ذاته لدى السلطات الاستونية عندما قامت بتطوير قاضي الكتروني يعتمد على الذكاء الاصطناعي في حل النزاعات القانونية، وكان ذلك بناء على طلب وزارة العدل الاستونية من مكتب مفوض تقنية المعلومات أوت فليسبرغ تطوير “القاضي الروبوت”، الذي سيكلف بالفصل في نزاعات قانونية لا تتجاوز قيمتها 8000 دولار أمريكي. وأما الصين فأنها تعمل للانتقال إلى العدالة الذكية وتطبيقها في جميع انحاء البلاد وتوسيع عدد الروبوتات في مختلف دوائر ومفاصل الدولة ودور العدالة، فلدى الصين روبوتات موزعة على محاكم مختلفة لها خاصية استعادة الأوليات والقضايا والأحكام السابقة، وأخر ما وصلت إليه ابتكارها الروبوت “Xsofia” الموجود في محكمة الشعب الصينية، الذي يقوم على تقديم المشورة القانونية للمواطنين. والجدير بالذكر هنا أن نذكر ما قاله المحامي المتخصص باسكال إديو في نقاش حول العدالة التنبؤية مبيناً: “علينا أن نعمل على العدالة التنبؤية لأنها سؤال المستقبل بالنسبة لنا” ويكمل قائلاً ” أن فكرة العدالة التنبؤية مسألة برزت مع تخوف عدم اليقين من نتائج المحاكمة وبالتالي القلق من فقدان الثقة في المحاكم التي تعتبر وجه العدالة”. ومع التطور السريع الذي حصل في مجال حفظ قواعد البيانات القضائية الالكترونية التي يحقهها الذكاء الاصطناعي عاملاً مهما في نجاح تطبيق العدالة التنبؤية؛ لما تحققه لمجال العدالة حكام ومحكومين من دقة في الأحكام واختصار في الجهد والوقت والنفقات، فلا يخلو هذا الشكل من العدالة في بدايته من مخاطر يستلزم مواجهتها أو العمل على استيعابها داخل المجال التشريعي والرقمي ليؤدي دوره بالشكل المطلوب.
ثالثا: سلبيات العدالة التنبؤية
أن العدالة في شكلها الالكتروني- التنبؤي- غير العدالة التقليدية بتسلسلها الهرمي ودرجات محاكمها، فهي تعمل على نظام خزن القرارات القضائية السابقة، التي يكون الاعتماد عليها في ما يطرح من نزاعات قانونية، وبذلك تلغى درجات المحاكم، فلا يكون في نظامها محاكم ابتدائية وعليا، ومن ثم قد تكون هناك خسارة لأحكام المحاكم العليا التي تشكل مبادئ قانونية مستقرة، فضلا عن ان الاعتماد على السوابق القضائية قد يردد أحكام متشابهة ويضعف الاداء التشريعي المتمثل بسن القوانين. فما تقدم قد يشكل ضعف في جانبين أساسيين يستلزم وضع علاج لهم، ويتوقف ذلك على نجاح برامج المعلوماتية بشكل آني وآلي لغرض تحسين جودة تحليل القراءات القضائية.
رابعا: مقترحات لمواجهة مخاطر العدالة التنبؤية
تم تسليط الضوء على سلبيات العدالة التنبؤية السابق بيانها، التي تعد بحاجة إلى معالجة على مستويين تشريعي وتكنولوجي وعلى أمدين قريب، ولأجل ذلك قدمت المقترحات التنظيمية للمفوضية الأوربية CEPEJ لفعاليات العدالة للحد من هذه المخاطر، فتبنت في عام 2018 “الميثاق الأخلاقي الأوربي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الأنظمة القضائية وبيئته” ، وهدف الميثاق نحو الحد من مخاطر العدالة التنبؤية ومحاولة تقنينها ووجه الميثاق أعماله إلى:
- المسؤولين عن تصميم أدوات و خدمات الذكاء الاصطناعي على أساس المعالجة الآلية للبيانات القضائية.
- السلطات العامة المسؤولة عن الإطار التشريعي أو التنظيمي لتطوير واستخدام هذه الأدوات والخدمات، ومما يتضح من مخرجات الميثاق أعلاه ان الحد من هذه المخاطر مسؤولية تضامنية بين المبرمجين التقنين والمشرعين القانونيين وهذا ما يشير إلى تغيير في نوع آلية التشريع وانتقالها من المجال التقليدي إلى المجال الالكتروني، والذي سنشهد فيه نصوص قانونية تحاكي الذكاء الاصطناعي –الروبوت- والية تنفيذ الكترونية، الذي من خلاله سيلغي دوائر ومؤسسات قانونية وقضائية كثيرة ظلت في وقتها مقبرة للأحكام وضياع نجاعة النص القانوني وانتقاص من أحكام القضاء.
خامسا: مستقبل العدالة التنبؤية
ذكرنا فيما تقدم بيانه بعض التطبيقات التي أخذت وعن قناعة ودراسة بحثية علمية بالعدالة التنبؤية، وما لها من آثار ونتائج جدية في تطبيقها واستعرضنا لدول تعد الأولى في مجال التكنولوجيا والمعلوماتية وهي تتصارع الآن على ساحة الذكاء الاصطناعي وتقنية المعلومات للسيطرة على العالم في مجال الثورة الرقمية وهي “الولايات المتحدة الأمريكية والصين” إذا استبعدنا بريطانيا والهند ودول النمور الآسيوية -التي تعمل بشكل خفي وعلني بنفس الوقت دون أن يكون في برامجها نية الاستعمار الالكتروني الصريح- على انجاز ذلك من خلال بيانات مراكز الأبحاث. وفي الجانب الآخر أن لهذه العدالة ميزة مهمة وقفت عندها الولايات المتحدة الأمريكية التي بينت : أن العدالة التنبؤية هي الحل الوحيد للقضاء على التفرقة في الأحكام القضائية ومواجهتها من خلال قضاة الكترونيين لا يعرفون التمييز بين اللونين والموروث التاريخي السياسي العنصري. بمعنى العدالة التنبؤية ستحقق العدل أكثر بين المواطنين وهذا هو أساس العمل القضائي ومن أولوياته. وفي مواجهة الفساد يكون له ذات الفاعلية التي تستدعي تطبيقه وخصوصا في بلدان التعددية الحزبية المسيطرة على مؤسسات الدولة – العراق أنموذجا- ، حيث سيكون القاضي غير معروف ولا يمكن تهديده وابتزازه أو توجيه الأوامر إليه أو منحه امتيازات على حساب الصالح العام كل هذا يدعم العدالة التنبؤية، فهل يا ترى سيرضى بذلك المنتفعون من المال العام؟.
سادسا: رأينا في مجال العدالة التنبؤية
نتيجة لرقمنه الحياة بمجالاتها العامة المالية والعلمية والطبية والقانونية والخدمات الحكومية، وأيضا في مجال الصناعة والبناء – المدن الذكية- والكترونية الصناعة والانتاج التي تستغني عن العاملين، يستتبع بالضرورة أن تكون حسم النزاعات القانونية بشكل تقني معلوماتي منسجم مع منطق الحياة العصرية من التطور، كما هي الخدمات المصرفية والسوق المالي وحركة الأموال وانتقالها السريع بين العالم اجمع، تكون المهمة باعتقادنا في مجال القضاء أيسر إذا ما اعتمدنا على واقع تشريعي وإداري جديد مبني على أساس الحكومة الالكترونية، سيما وان ذلك سيكون بطريق الإذعان نتيجة أزمة الفيروسات التي تجتاح العالم فلا يعقل ان يتوقف مرفق العدالة والقضاء بسبب اختلاط أعداد كبيرة من المتقاضين في غرف محدودة المساحة معدومة التهوية هي المحاكم – كما في العراق- ، وما يتصل بها غرف المحامين التي باتت مكدسة بإعداد كبيرة من المحامين، فالعدالة التنبؤية هي مستقبل القضاء الجديد في الوسط الافتراضي الذي لا يحتاج إلى محامي وخبير وباحث اجتماعي وغيرها من إجراءات وأدوات حل النزاعات القديمة التي ظلت وحدها فريدة التطبيق مع قوانينها القديمة. فالتغيير بات قادم بفضل التكنولوجيا إجباري وليس اختياري وأفضل شاهد على ذلك هو التعليم الالكتروني الذي كان لوزارتي التربية والتعليم في العراق رفض قاطع بل أن الموضوع غير قابل للنقاش فيه، وها هي اليوم اعتمدت التجربة الالكترونية في التعليم المدرسي الأساسي والجامعي الأولي والعالي، وكل ذلك ليس بقناعاتها بل رغما عنها مذعنة على التطبيق.
د. محمد صباح علي
ر. مركز بغداد للتنمية القانونية والاقتصادية