النشاطات

تأملات / أميون في بلاد الأبجدية الأولى !

تأملات / أميون في بلاد الأبجدية الأولى !

تأملات / أميون في بلاد الأبجدية الأولى !

رضا الظاهر

2011 / 5 / 9


تأملات

أمّيون
في بلاد الأبجدية الأولى !

كشف أكاديميون ومتخصصون، الأسبوع الماضي، عن وجود ما لا يقل عن تسعة ملايين أمي في البلاد، مؤكدين أن هناك ما يقرب من مليون وربع المليون طالب يتركون الدراسة كل ثلاث سنوات، ومشيرين الى أن نسبة الأمية بين النساء تبلغ 24 في المائة، وهي أكثر من ضعفها لدى الرجال حيث تبلغ 11 في المائة.
وتلقي هذه الحقيقة المروعة، من بين مآسٍ أخرى ابتليت بها بلاد الرافدين، أضواء على أن أزمة البلاد لا تقف عند حدود السياسة، وإنما تتعداها لتصبح أزمة عامة تشمل مختلف مجالات الحياة الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والروحية. وليست الأزمة في النظام التعليمي سوى تجلٍ لأزمة النظام الاجتماعي والانحدار الذي نراه في سائر مناحي الحياة.
ويعاني وضع التعليم من التدني على مستويات مختلفة بينها غياب التخطيط الستراتيجي للعملية التعليمية وآفاق تطويرها، وتخلف المناهج والكتب والبرامج وأساليب التعليم، والأبنية المدرسية وازدواج الدوام، ومعاناة العاملين في الميدان التعليمي، وغياب استقلالية المؤسسات التعليمية، وتفشي الفساد، وبطالة الخريجين، والتمييز في البعثات الدراسية الى الخارج على أسس طائفية وحزبية ضيقة في الغالب، وغياب النوادي الثقافية ومراكز العلوم، وانحدار هيبة الأساتذة بين طلابهم وسيادة الأجواء الطائفية والعشائرية والحزبية الضيقة في الجامعات واستمرار التدخلات و”التسييس” وانتهاك الحرم الجامعي وحقوق وحريات الطلبة وخصوصا الطالبات، وسوى ذلك الكثير من الظواهر السلبية التي باتت معروفة. وفي سياق كل هذا التدهور يلفت الانتباه أن حكومة “الشراكة الوطنية” لم تبد رغبة جدية في إعادة إعمار البنية التحتية المدمرة في مجال التعليم.
ولن تستطيع المزاعم التي يطلقها معنيون في محاولة لطمس حقائق الواقع وتقديم صورة زائفة عن حصول تقدم في مجال التعليم إخفاء السلوك السائد لدى المتحكمين بأمور التعليم في البلاد وحكامها المتنفذين، وهو السلوك الذي يستخدم التضليل كجزء من تأبيد ثقافة سائدة بهدف الحفاظ على الامتيازات والابقاء على الواقع الراهن وإعاقة أية محاولات للتغيير والاصلاح الجذري الحقيقي.
ومما يثير الأسى، بل السخط، تلك، التصريحات التي تشير الى أن وزارة التربية “أعدت خطة عملية وستراتيجية لحل مشاكل المدارس الطينية …”، ولكن عن طريق منحة سابقة بقيمة 100 مليون دولار مقدمة من البنك الدولي، وكأن ميزانية بلاد الذهب الأسود عاجزة عن حل معضلات مدارس الطين، وما من سبيل أمامها سوى الاستجداء من البنك الدولي، الذي لا يمكن أن يقدم منحة أو مساعدة دون فرض شروطه الجائرة المعروفة.
والحق إن هذا يكشف، من بين ظواهر سلبية أخرى، عن غياب التخطيط والتوزيع العادل والمثمر لمخصصات الميزانية السنوية وحرمان التعليم، وهو من أساسيات الحياة المرتبطة بالتطور الاجتماعي للبلاد، من فرص تأدية دوره الحاسم في المجتمع.
وكانت مؤسسات عالمية معنية بالتعليم قد نظمت قبل حوالي الشهرين ندوة دولية حول التعليم في العراق خلصت الى أن “التعليم في العراق يحتضر نتيجة السياسات الكارثية التي تقوده”. وأورد ديريك أديريانسيس، عضو اللجنة التنفيذية لمحكمة بروكسل المساهم في الندوة، الأسباب التي أدت الى تدهور التعليم، بحيث لم تصل سوى ثلاث جامعات عراقية الى ترتيب أفضل 100 جامعة عربية، يقابلها 8 جامعات عراقية تم تصنيفها من ضمن 12 ألف جامعة عالمية، حيث اعتبرت الجامعات العراقية من بين الأسوأ عربياً وعالمياً.
ومن بالغ الدلالة أن هذا، وسواه من تجليات التدهور والانحدار، يحدث في بلد كان يعتبر الأفضل في المنطقة من حيث مستوى التعليم.
وبات معروفاً للقاصي والداني أن “المحررين”، الذين اتسمت منهجيتهم بالتخبط والتضليل وحماية مصالحهم الخاصة بأي ثمن، كشفوا عن تلك المزاعم التي حاولت الايهام بأنهم يسعون الى جعل العراق نموذجاً لشرق أوسط جديد. وقد بانت حقيقة هذا الزعم بعد ثماني سنوات من الاحتلال المقيت، إذ شهدت البلاد وماتزال أزمة عميقة على مختلف الصعد والمستويات، وبينها التعليم. ولعل من بين المآسي التي لا تحصى إقالة وتهديد واختطاف واغتيال المئات من أفضل المربين والاختصاصيين والعلماء، الأمر الذي أدى بألوف الى الهرب حفاظاً على أرواحهم وعوائلهم. ولم يسلم الطلاب أنفسهم من الترهيب والخطف والاعتقال بل والقتل. ومما عمق الأزمة أن يعين أكاديميون موالون للاحتلال ونهج المحاصصات الطائفية، وبينهم حملة شهادات مزورة أو مشتراة، في مواقع حساسة ومقررة.
* * *
من مدارس العراق “الديمقراطي الجديد”، الطينية وغير الطينية، يتسرب أطفال لينضموا الى جيش الأمية الذي بدأت أفواجه بالتشكل تحت ظلال حروب الدكتاتورية واستبدادها ودمارها المادي والروحي، واستكمل التشكيل عبر “التحرير” ونهج المحاصصات.
وليس مما يثير الاستغراب أن تكون النسبة الغالبة في جيش الأميين المتعاظم من النساء. فالثقافة السائدة تميل الى حرمان النساء من التعليم أو الاستهانة بأهمية تعليمهن في الأقل باعتبارهن رقيق المنازل.
في بلاد الأبجدية الأولى يرخي ليل أمية طويل سدوله ليعوق بزوغ فجر جديد ننتظره .. غير أن هذا الفجر آت لا ريب ليعيد، في غد قريب لناظره، بلاد النوائب والظلام الى المسرات والنور .*

* عن الحوار المتمدن..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى