الفكر السياسي

الدين، الدولة المدنية، والديمقراطية

ثامر الصفار
(Thamer Alsafar)

2017 / 12 / 8

هل يتطلب تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية قطيعة تامة بين الدين ومؤسساته من جهة وبين الدولة من جهة اخرى؟ الفرضية المركزية لهذه الورقة هي أن ثمة أنواعا معينة فقط من المشاركة الدينية في السياسة يمكن اعتبارها ضارة بالنظم الديمقراطية، اما الانواع الاخرى فهي ليست كذلك.

لا ريب ان المؤسسة التشريعية لاي دولة ديمقراطية تتفرض استقلالية كافية لصياغة سياسة لا تتجاوز الدستور الخاص بالبلد المعني، بحيث لا يمكن الطعن فيها او ابطالها من قبل أي مؤسسة دينية او قادة دينيون غير منتخبين. بمعنى آخر، هذا هو الشرط الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي، والذي يفهم، في الغالب العام، على ان الديمقراطية يجب ان تكون بالضرورة علمانية ايضا.

هذه الورقة ترى ان هذا التصور غير دقيق ، وانه جاء بفعل سببين: الأول يتعلق بالجذور التاريخية للديمقراطية الحديثة في الغرب والتي تتشابك مع جذور الدولة القومية الليبرالية. حيث إن صعود الدولة القومية، تطلب، بدوره، نصرا حاسما على ادعاءات المؤسسة الدينية بالشرعية السياسية وضرورة الولاء لها. والثاني يتعلق بالتصور القائل انه حتى في حالة الاقرار بوجود علاقة ودية بين المؤسسة الدينية والحياة السياسية للديمقراطيات الغربية، فان ذلك حالة فريدة تخص الدين المسيحي فقط ، وبالتالي لا يمكن تطبيقها بشكل عام وخصوصا على الدين الاسلامي. تقول هذه الورقة بوجود امثلة، ضمن الديمقراطيات الغربية، طبقت فيها مجموعة واسعة من الاجراءات لتحديد علاقة المؤسسة الدينية بالدولة، تعطي الدين إمكانية القيام بدور مركزي في الحياة السياسية مع الحفاظ على جودة عالية من الحقوق والحريات الديمقراطية المدنية، وان ثمة امكانية لاعطاءها صفة العمومية مع الاخذ بعين الاعتبار الحالة الدينية السائدة في كل بلد، برغم ان تجارب فتح الطريق امام السلطة الدينية يمكن ان يؤدي الى سياسة لاهوتية خطيرة كما هو الحال مع تجربة ولاية الفقية في ايران وحركة طالبان في افغانستان.

ولكن ماذا عن الحالة العراقية؟. هنا تقترح الورقة بانه قد يكون من الصواب قيام علاقة ودية وديمقراطية بين المؤسسة الدينية المعتدلة ( السيستاني، الصدر، وغيرهم) وبين الساعين الى بناء دولة مدنية ديمقراطية، حاليا، ومن ثم بين الاولى وبين الدولة كمؤسسة تشريعية وتنفيذية، من أجل توطيد بناء الدولة الحديثة العهد بالديمقراطية. وعلى النقيض من ذلك، فإن العلاقة المتشددة، والاصرار على الفصل التام بين الدين والدولة، في بلد كالعراق ، لا يقتصر على خطر إثارة القوى المناهضة والمعادية للديمقراطية التي تكمن في الأصولية الدينية، بل يحجب أيضا كامل الخيارات المتاحة للعلاقات السليمة بين الدين والدولة، مما يؤدي إلى إضعاف الدين كقوة اضافية للمساعدة على إضفاء الشرعية على النظم الديمقراطية الجديدة وتعزيزها. (خوان لينز 2004، كول دورهام الابن 1996، درسين 2010، غريم/فينكي 2006، وفوكس 2006 ).

ولتوضيح الصورة فيما يتعلق بالحالة العراقية، لابد من اجراء مقارنة بينها وبين تجارب سابقة، وتحديدا مع تجربة ايطاليا وتجربة المانيا في السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية.

الجدول التالي يعرض مقارنة سريعة بين هذه الحالات وسنعتمد على حالة التشابه بينها ونخوض في تفاصيلها لنجيب لاحقا على امكانية الاستفادة من التجربتين الايطالية والالمانية ، وعلى دور الشيوعيين خصوصا في التجربة الايطالية، واخيرا الاجراءات والسياسات المطلوبة لتحقيق هدفنا في اقامة دولة مدنية ديمقراطية وعدالة اجتماعية.

العراق ايطاليا/ المانيا
مرجعية دينية ذات تأثير قوي على الشعب مرجعية دينية ذات تأثير قوي على الشعب
احزاب سياسية مبنية على اساس ديني احزاب سياسية مبنية على اساس ديني
مليشيات مسلحة وجريمة منظمة مافيا وجريمة منظمة (ايطاليا) بقايا النازية (المانيا)
قوميات متعددة قوميات متعددة
تعددية دينية و مذهبية مع غالبية للاسلام تعددية دينية ومذهبية مع غالبية للمسيحية
جمهورية فيدرالية برلمانية جمهورية فيدرالية برلمانية

نلاحظ هنا انه بالرغم من التشابهات فان مقياس فريدوم هاوس العالمي (يقيس درجة الحريات السياسية والمدنية) يضع العراق في خانة الدول غير الحرة بعد ان حصل على 27 نقطة فقط من مجموع 100 نقطة. ويضع المانيا وايطاليا في خانة البلدان الحرة بعد حصولهما على 95 و 89 على التوالي من مجموع 100 نقطة (2017). اما مقياس بولتي ( يقيس درجة الديمقراطية، الاسوء يحصل على سالب 10 والافضل يحصل على موجب 10) وحسب بيانات عام 2015 فقد اعتبر العراق بلدا ديمقراطيا بعد حصوله على درجة موجب 6، اما المانيا وايطاليا فهما بلدان كاملا الديمقراطية بعد حصولهما على موجب 10 لكل منهما. بكلمة اخرى ان العراق هو من الديمقراطيات حديثة العهد، يمر حاليا بمرحلة تشابه ما مرت به ايطاليا والمانيا في اعقاب الحرب العالمية الثانية، وطالما تمكنت هاتان الدولتان من الوصول الى الديمقراطية الكاملة فان امكانية تحقيق ذلك في العراق ممكن ايضا، مع الاخذ بعين الاعتبار خصوصية كل بلد.

بشكل عام، يمكن القول بان جميع المحاولات المبكرة لإرساء الديمقراطية في عدة بلدان كاثوليكية في أوروبا، على سبيل المثال، كما في إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وبلجيكا، او بروتستانتية كما في المانيا، كانت القوى الدينية ناجحة نسبيا في تعبئة المعارضة الفعالة ضد القوى الديمقراطية المبكرة. وطالما لم تكن الاحزاب الديمقراطية قادرةعلى فرض تراجع ديني كامل من المجال السياسي،أي تحقيق الفصل التام بين الدين والسياسة، فقد انتهت، في الغالب،الى الدخول في مساومات مع هؤلاء الزعماء الدينيين على محتوى جمهورياتهم الديمقراطية من أجل الحصول على موافقة الأغلبية على المؤسسات الديمقراطية (لينز 1991؛ كاليفاس 1997؛ غولد 1999). في كتابه الأخير عن أصول الحرية الدينية، يشير جيل (2008) إلى أن عمليات مماثلة وقعت أيضا في أجزاء من أمريكا اللاتينية الكاثوليكية. و يكشف جيل كيف أن الضرورة السياسية حتمت على بعض القادة السياسيين ضرورة التعامل وتقديم بعض المزايا للكنيسة، من أجل كسب الشرعية الشعبية ،التي تشتد الحاجة إليها، لحكوماتهم .وفي حين تمكنت العديد من الديمقراطيات الجديدة، في نهاية المطاف، من تحقيق انفصال الكنيسة عن الدولة، ظلت الكنيسة الكاثوليكية قادرة، في كثير من الاحيان، على الاستمرار في التفاوض على علاقة مناسبة مع أنظمة سياسية وطنية محددة. وحتى يومنا هذا، لا تزال السلطات الدينية تتمتع بسلطة سياسية هائلة في هذه البلدان، من خلال بقايا الأحزاب السياسية الديمقراطية المسيحية، وتمويل الدولة للمباني والتعليم ورجال الدين، وبصفتها صوتا عاما مثيرا للجدل بشأن القوانين والقرارات المتعلقة بقضايا “الحياة” مثل الإجهاض ، والطلاق، والقتل الرحيم والحرب.

وعلى عكس توقعات المنظرين العلمانيين ، في امكانية تراجع المؤسسة الدينية الى النشاط في مجال الدين فقط ، فقد اتضح انه في ظل ظروف معينة، تمكن الزعماء الدينيون من فرض إعادة التفاوض لتحقيق المزيد من الحقوق لموقفها الاخلاقي وسلطتها العامة في الديمقراطيات (كاسانوفا 1994). ففي بعض البلدان الكاثوليكية استفاد قادة الكنيسة من جذورهم في المجتمع المدني واستخدموها كقاعدة يمكن من خلالها الحفاظ على الدين العام، والنشط، داخل الديمقراطيات الحديثة بطريقة لا يبدو أنها تنطوي على خطر الحط من نوعية أو استدامة الديمقراطية (كاسانوفا 2001). وهكذا، بدلا من فهم علاقة المؤسسة الدينية بالدولة على انها علاقة خطية، سلسة متواصلة، فيما يتعلق بالديمقراطية، حيث المزيد من الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة هو إيجابي، وأقل فصل هو سلبي، فان ما ذكرناه يشير إلى أنه قد يكون أكثر فائدة، من الناحية التحليلية، فهم الترتيبات المطلوبة بين المؤسسة الدينية والدولة باعتبارها ترتيبات مختلفة، تمر بحالات صعود ونكوص، في ارتباطها بالديمقراطية.

وفي هذا الصدد تبرز امامنا التجربة الايطالية كمثال ، اذ انها تحمل خصوصية فيما يتعلق بعلاقة الدولة باكبر المرجعيات الدينية المسيحية في العالم، الفاتيكان. وسبب خصوصيتها لا يرجع فقط الى كون الفاتيكان يحتل وسط العاصمة روما – دولة داخل دولة- بل ايضا لان ايطاليا لم تشهد فصلا او قطيعة مع الكاثولوكية المتراصة البنيان، فلا وجود لاي تحد لسلطة الفاتيكان لعصور مديدة.

وكان الفاتيكان يقاتل بضراوة من اجل الحفاظ لا على تكامل سلطته الدينية فقط بل من اجل سلطته السياسية ايضا. ولهذا ظل الايطاليون، وبعد مضي قرون عديدة على اصلاحات مارتن لوثر كنغ والملك هنري الثامن، غير قادرين وغير راغبين برسم خط فاصل بين القيصر والله – الدولة والدين. ومن كان يفكر منهم بذلك، برغم انهم الان اكبر عددا من السابق، فانهم يسبحون عكس التيار.

ان من اهم الاسباب التي جعلت الفاتيكان عاملا اساسيا في السياسة هي قدرته على التأقلم مع التغيرات الحاصلة في النظام الحكومي. فبالامس كان متصالحا مع الفاشية وهو اليوم يساهم في بناء الديمقراطية في ايطاليا.

ومن خلال دعم المرجعية الدينية لمسؤولي الدولة المرتبطين بها، بغض النظر عن طبيعة النظام، تمكن الاخيرون من تقديم الكثير لاتباعهم: وظائف، رواتب تقاعدية لاي سبب كان، جوازات سفر، عقود لتنفيذ بعض المشاريع العامة، طريق مفتوح لوسائل الاعلام، السماح بحصول تجاوزات على قوانين البناء، موافقات خاصة لاستخدام الارصفة والاراضي العامة لمصالح خاصة، تخليص المعاملات بطرق سريعة..الخ (لابالومبارا 1964).

وبالرغم ان بروز حالة احتجاج ورفض لمثل هذه الممارسات، ونشوء حالة من الرفض لرجال الدين، الا ان الحزب الشيوعي الايطالي لم يتبنى موقفا معاديا لهم بشكل رسمي ومعلن. فقد ادرك الحزب اهمية المرجعية بالنسبة لملايين الايطاليين، وبالتالي فان اتخاذ موقف معاد لها يكون بمثابة السباحة في مياه خطرة، وفضل الوقوف على ارض عالية. وكان هذا القرار الذي اتخذه الحزب بقيادة تولياتي مفاجئا للجميع خصوصا قبوله للاتفاقية البابوية الموقعة من قبل البابا بيوس الثاني عشر وموسيليني عام 1929. ومنذ ذلك الوقت حافظ الحزب على علاقة غير معلنة مع الفاتيكان تقول بان لا يكون الدين موضوعا من موضوعات الحزب. وكان من نتائج ذلك، ابتعاد الحزب عن طرح القضايا المعارضة لقوانين الزواج والطلاق وغيرها، لكنه بالطبع ظل يسند الحملة التي شنها الديمقراطيون والليبراليون والاشتراكيون وغيرهم من القوى المدنية لتغييرهذه القوانين. وظل الشيوعيون الايطاليون يجرون حسابات الربح والخسارة قبل اتخاذهم لاي قرار او خطوة ضد الفاتيكان. لكن الحزب استمر في توعية الايطاليين بضرورة التمييز بين الموقف الديني والموقف المدني اتجاه القضايا التي تمس الحياة العامة.

وكان من نتائجه ايضا عدم وقوف المرجعية الدينية امام وصول النواب الشيوعيين الى البرلمان ومنح الاستقلالية لهم ولبقية النواب في رسم سياسة البلاد الاقتصادية والخارجية ( لابالومبارا 1987)، وهو الشرط الاساسي كما ذكرنا سابقا لتحقيق الدولة الديمقراطية.

ان إحدى الدروس الهامة المستخلصة من التجربة الإيطالية، هي أن نجاح الديمقراطية لم يكن مرتبطا بالإزالة الكاملة للكنيسة الكاثوليكية من مجال السياسة، بل بالتفاوض على نوع الدور الذي يمكن ان تلعبه الكنيسة في الحياة السياسية. ولم تعد الكنيسة الكاثوليكية تتحكم بالسلطة التنفيذية والتشريعية للبلاد، وقبلت، عموما، الطابع التعددي للمعتقدات والهوية الوطنية؛ وبالمقابل، فإن الدولة الإيطالية، توقفت عن التدخل في الدين، واستمرت على تقديم مزايا خاصة وبعض الدور المؤسساتي للكنيسة في الحياة العامة. والنتيجة التي نخلص لها انه برغم وجود مخاطر لإشراك الدين في المجال السياسي، لا يبدو أن جميع أنواع المشاركة الدينية في السياسة، أو العكس، على نفس القدر من المخاطرة. وبعبارة أخرى، يبدو أن بعض أنواع عدم الفصل بين الدين والدولة متوافقة تماما مع الديمقراطية.

وفي المانيا الغربية ايضا، لعبت الكنيسة دورا مهما في ضمان توفير الدعم لبناء دولة ديمقراطية في اعقاب الحرب العالمية الثانية وانقسام المانيا الى دولتين. ففي ذلك الوقت لم تكن فكرة الديمقراطية تحظى بالقبول في اذهان الالمان الذين نظروا اليها باعتبارها مرتبطة بالاحتلال الاميركي لبلدهم. ومن اجل ترسيخ فكرة الديمقراطية باعتبارها اسلوبا للحياة بدلا عن ان تكون مجرد نظام للحكم استعانت الحكومة بالكنيسة لترسيخ مفهوما دينيا مقبولا يقول بان الديمقراطية هي روح الانسانية.

والدرس المستخلص هنا ايضا ان بالامكان الاستفادة من المؤسسة الدينية لضمان بناء دولة ديمقراطية وان هذه المؤسسة ليست بالضرورة قوة محافظة تقف في مواجهة عملية التغيير نحو الدولة المدنية ( سبرنغهارت 2014).

ثمة العديد من الابحاث والدراسات، لا يسع المجال لطرحها هنا، خلصت الى ذات الرأي، نخص منها دراسة مايكل دريسن 2010 الذي حلل بعدين او اتجاهين لعلاقة الدين بالدولة معتمدا على البيانات العالمية لبلدان العالم وخلص ايضا الى نفس النتائج.

نعود الان الى موضوعة ان امكانية تطبيق هذه النتائج تقتصر فقط على الديانة المسيحية ولا يمكن تطبيقها على الدين الاسلامي، وان الاسلام السياسي هو مولود طبيعي للدين الاسلامي، وهي اطروحة معظم الباحثين الغربيين ذوي الاتجاه اليميني المحافظ، لكنها للاسف وصلت الى عقول الكثيرين وبضمنهم القوى المدنية واليسارية في ” العالم الاسلامي”.

حسبنا هنا الاشارة الى مقدمة “موسوعة اديان العالم” الصادرة عن جامعة اكسفورد عام 2007، حيث عرضت الاسلام منذ ولادته لتنتهي باحداث 9 ايلول وتفجيرات اسبانيا وبريطانيا، بحيث تصبح الخلاصة المنطقية ان الاسلام يقود بشكل طبيعي الى اسلام سياسي يمارس العنف.( اوكستوبي/سيغال 2007).

ونشير ايضا الى برنارد لويس و صاموئيل هانتنغتون اللذان يعتبران صاحبا هذا التصور. فنجد ان لويس في مقالته الشهيرة ” جذور الغضب الاسلامي” (1990) يطرح التصور على النحو التالي: يبدء بطرح الفصل التاريخي بين الدين والسياسة في المسيحية، ثم يصرح بان مثل هذا الفصل لم يحدث في المجتمعات الاسلامية، ليخلص الى ان اعجاب المسلمين بانجازات الغرب قد ولد لديهم حالة من الرفض والعداء للمجتمع الغربي. وقد طور لويس طرحه في دراسة لاحقة ليصل الى ” ان فكرة وجود مجتمع مدني هي فكرة مرفوضة تماما في الاسلام” .

اما هانتنغتون فيطرح ” ان مشكلة الغرب ليست مع الاصولية الاسلامية ، انها مع الاسلام” (هانتنغتون 1998).

ان هذه النماذج تمثل قراءة خاطئة، متعمدة، لتاريخ الإسلام. نعم أن الإسلام هو أيديولوجية سياسية ودينية عند نشأته، ولكن، على الأقل منذ القرن الثامن، كان هناك فصل، بحكم الواقع، de facto بين السلطة السياسية والدينية. كما انه لا يختلف كثيرا عن تحول المسيحية الى سياسة عندما اعتمدت روما المسيحية دينا رسميا لها، وعندما استخدمته الباوبوية في سعيها لتوحيد اوربا تحت راية المسيحية لتطلق عنان الحروب باسم الله.(روي 1998)

ان نظرة سريعة للتاريخ الاسلامي ستثبت ان من الافضل فهم الاسلام السياسي كظاهرة حديثة سبقتها ظاهرات مماثلة في المسيحية واليهودية والهندوسية ايضا، وانه ليس مولودا طبيعيا للاسلام.

حسبي هنا ان احيل المهتمين الى الدراسة الموسومة ” الاسلام السياسي: تحليل ماركسي”(2011) للباحثة الماركسية ديبا كومارالتي حللت التاريخ الاسلامي تحليلا ماركسيا وخلصت الى:

1- نشأ الاسلام في مجتمع تجاري وان محمد ادرك ان على قبائل المدينة ان تتوحد تحت راية واحدة اذا ما ارادت المزيد من السلطة التجارية والسياسية.
2- في الفترة التي عاش فيها محمد كان هو القائد الديني والسياسي بلا منازع
3- فترة حكم الخلفاء امتازت بصراعات على هذا الموقع وانتهت باغتيال الخليفة الرابع وقيام الدولة الاموية
4- مع قيام الدولة برز الى السطح الفصل العملي بين السياسة والدين، فكان الملوك والسلاطين والامراء مسؤولين عن ادارة الدولة، اما الشؤون الدينية فقد تركت لما يعرف بالعلماء اللذين تحددت مهامهم في اضفاء الشرعية على قيادة الدولة والنظر في امور الرعية دينيا، واستمر هذا الفصل الى نهاية الدولة العثمانية.
5- من مهام طبقة العلماء ايضا صياغة الشريعة التي توحد عملية التعامل مع شعوب متنوعة اصبحت خاضعة للاميراطورية الاسلامية.
6- في المراحل الاخيرة لم يعد حتى للخليفة او السلطان اي دور سياسي حيث اصبح ذلك من مهام الوزير الاول والقادة العسكريين.
7- حصول تقسيم للعمل فظهر ” رجال القلم” و ” رجال السيف”. فكانت الاولى تضم الى جانب العلماء وموظفي الدواوين والقضاة، والثانية القادة العسكريون ومهتهم حماية البلاد وتوسيع رقعة الامبراطورية.
8- ان التحول الذي حصل خلال العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين باتجاه الاصولية الاسلامية هو نتاج ظروف اقتصادية وسياسية لا تختلف عن الظروف التي ادت الى نشوء اصوليات اخرى هندية واميركية لاتينية.

وهذا كله يناقض تماما اطروحات اليمين الغربي لان من الواضح ان فصل الدين عن السياسة ليس غريبا على المجتمعات الاسلامية وبالتالي فان امكانية تطبيق ما ذكرناه آنفا قائمة سواء على الدين المسيحي او الاسلامي.

خلاصة:
يتضح مما سبق ذكره ان الدعوة الى الفصل التام بين الدين والدولة في بلد كالعراق هي ليست بالضرورة الدعوة الاسلم، فتجارب العالم تؤكد ان في مثل هذه الحالات يمكن الابقاء على دور معين للمؤسسة الدينية من اجل كسب تأييد مريديها في دعم المرشحين للانتخابات والساعين الى اقامة الدولة المدنية. وان علينا الوصول مع القوى الدينية المعتدلة الى قناعة باهمية الديمقراطية باعتبارها ” روح الانسانية” وباهمية دورهم في ذلك، ومقابله توفير الاستقلالية للسلطتين التشريعية والتنفيذية في ادارة ملفات الاقتصاد والسياسة.
ضرورة عدم فتح جبهات صراع عديدة والتركيز على المفاصل الاساسية (قانون انتخابات عادل، مفوضية انتخابات مستقلة، قضاء مستقل) وترك القضايا الاخرى لمنظمات المجتمع المدني والاحزاب الاخرى للمطالبة بها ودعمنا لهم.
ومن شأن تدوير عجلة الاقتصاد وممارسة سياسة حكيمة ان تعجل في عملية توعية الشعب للمطالبة بالمزيد وخصوصا في السياسة الاجتماعية مما يولد قناعة للمؤسسة الدينية لضرورة العمل مع الدولة بطريقة تضمن تلبية مطالب الشعب.

المصادر:

1. Casanova, José. 1994. “Public Religions in the Modern World”. Chicago: The University of Chicago Press.

2. Casanova, José 2001. “Civil Society and Religion: Retrospective Reflections on Catholicism and Prospective Reflections on Islam,” Social Research 68(4) 1041-1080.

3. Durham, W. Cole. 1996. “Perspectives on Religious Liberty: A Comparative Framework,” in J. Vyer and J. Witte, jr. (eds) Religious Human Rights in Global perspective: legal perspectives. The Hague: Martinus Nijhoff Publishers.

4. Driessn, Michael 2010. “Analyzing two dimensions of church-state arrangements Politics and Religion”

5. Fox, Jonathon. 2006. “World Separation of Religion and State into the 21st Century,” Comparative Political Studies, 39 (5), 537-69.

6. Grim, Brian and Roger Finke. 2006. “International Religion Indexes: Government Regulation, Government Favoritism, and Social Regulation of Religion,” Interdisciplinary Journal of Research on Religion, (2) 1 3–40.

7. Gould, Andrew. 1999. “Origins of Liberal Dominance: State, Church and Party in nineteenth-Century Europe”. Ann Arbor: University of Michigan Press.

8. Gill, Anthony 2008. “The Political Origins of Religious Liberty”. New York: Cambridge University Press.

9. Huntington, Samuel. “The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order” (New York: Simon and Schuster, 1998), 217

10. Kalyvas, Stathis. 1996. “The Rise of Christian Democracy in Europe”. Ithaca: Cornell University Press.

11. Kumar, Deeba. 2001. “Political Islam: A Marxist Analysis. International Socialist Review, Issue # 76,78.

12. Linz, Juan 2004. “The Religious Use of Politics and/or the Political Use of Religion: ersatz ideology versus ersatz religion”, in Hans Maier (eds) Totalitarianism and Political Religions: Concepts for the Comparison of Dictatorships. New York: Routledge

13. Linz, Juan. 1991. “Church and State in Spain from the Civil War to the Return of Democracy,” Daedulus, (120) 3 159–178.

14. LaPalombara, Joseph. 1964, “Interest Groups in Italian Politics”, Princeton University Press.

15. LaPalombara, Joseph. 1987, “Democracy Italian Style”, Yale University Press.

16. Lewis, Bernard. “The Roots of Muslim Rage,” The Atlantic, September 1990,

17. Oxtoby, Willard and Segal, Alan, eds.,2007. “A Concise Introduction to World Religions (Oxford: Oxford University Press), 200.

18. Quoted in Mahmood Mamdani, “Good Muslim, Bad Muslim: America, the Cold War, and the Roots of Terror” (New York: Doubleday, 2004), 23.

19. Roy, Olivier. “The Failure of Political Islam (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1998), 13–14

20. Springhart, Heike. “The Role of Religion in the Growth of Democracy in Germany”, 2014.*

*. عن الحوار المتمدن…

زر الذهاب إلى الأعلى