الفكر السياسي

المؤسسات الاجتماعية والمجتمع المدني في العراق

المؤسسات الاجتماعية والمجتمع المدني في العراق

د. فالح عبد الجبار

2005 / 7 / 20

(موجز ورقة بحث)

مقدمة

ثمة فهم شائع وشائه للمجتمع المدني يقوم على حصره في “المنظمات الطوعية”، وهو فهم يضرب جذوره في المدرسة الأميركية التي ورثت هذه الرؤية عن أليكسي دي توكفيل صاحب كتاب “الديمقراطية في أميركا”. والعالم العربي يتداول هذا الفهم دون أية مساءلة نقدية، ويفشل، بالتالي، في إرساء قواعد للمجتمع المدني، متينة وفاعلة.

فهمنا للمجتمع المدني يعتمد على أربعة أركان، هي تباعاً:

1- هو المجتمع التجاري، الذي يستقل فيه الاقتصاد، أو إنتاج الثروة عن الدولة بوصفها جهازاً للحكم، أي انفصال الاقتصاد عن السياسة (آدم سميث – ثروة الأمم)، غير أن هذا المجال الاجتماعي المستقل ليس جنة التصالح بل هو مجال مصالح متعارضة (هيجل – فلسفة الحق، ماركس – نقد فلسفة الحق).

2- المجتمع المدني يتمثَل أيضاً في المؤسسات الوسيطة التي تقف بين الفرد والدولة، وتتولى سلطات محدودة، تؤدي إلى نشر السلطة لا مركزتها، وإلى حماية الفرد من جبروت الدولة المركزية (مونتسيكيو – روح الشرائع).

3- المجتمع المدني يتمثل أيضاً في الاتحادات الاجتماعية الطوعية، غير القرابية non-primordial. وإن نشوءها مرهون بوجود المؤسسات المذكورة فــي (1) و (2)، ولا يمكن لها أن تقوم في فراغ (إليكسيس دي توكفيل – الديمقراطية في أميركا).

4- أخيراً، هناك بعد رابع للمجتمع المدني هو نشوء مجـال عام (public sphere) لتداول المعلومات غير المحتكرة سلعياً، تسمح بنشر آراء متعددة وتدقيقها، ونشر الشفافية (المدرسة الألمانية – أدورنو-هابرماس).

هذه أوجه مركبة، متداخلة للمجتمع المدني، نتخذها معياراً للقياس والتحليل والاستدلال.

الحقل الأول: المجتمع المدني في العراق

تطورت نبتات المجتمع المدني الحديث في العـراق منذ إصلاحات مدحـت بـاشـا (1872)، وتواصلت في العهد الملكي (1921-1958)، بوتيرة متسارعة. وكانت في الواقع عملية تحديث لمجتمع زراعي انتقل من أشكال التنظيم القرابية التقليدية، كالقبائل والعشائر، وبيوتات الأشراف والأعيان، والأصناف الحرفية، إلى مجتمع يعتمد معايير الثروة والتعليم الحديث، من دون أن يفقد ماضيه التقليدي بالمرة. فهو مجتمع انتقالي، تتجاور فيه الطبقات الحديثة، مع الفئات التقليدية، وتقع بين الاثنتين فئات وسيطة تحمل شيئا من هذا وذاك. ترعرعت طبقة من التجار والصناعيين والمصرفيين والمقاولين في قطاع خاص، على أساس اقتصاد السوق، وباتت قوة مجتمعية يحسب لها حساب. كما نشأت، قبلها، طبقة قوية من كبار ملاك الأرض.

وأدت عمليات التحديث، أيضا، إلى نشوء طبقات وسطى تعتمد بالأساس التعليم الحديث، مثلما تعتمد على الملكية ورأس المال في جانب.

وتبلورت طبقات عاملة في الصناعات الحديثة، وطبقة فلاحية معدمة في الأرياف. بإزاء نشوء الثروة الاجتماعية كمجال مستقل نسبياً، نمت أيضا اتحادات وجمعيات وحركات اجتماعية، تعبر عن هذه المصالح، وتذوِد عنها، ضاغطة على المجال السياسي. وبموازاة ذلك أيضاً، ازدهرت بشكل نسبي صحافة ومجال معلوماتي غير حكومي.

عملية التطور هذه انقطعت في حقبة الحكم العسكري “الثوري” (1958-1968)، وتشوهت تماماً في حقبة الحكم الشمولي (1968-2003).

الحقل الثاني: تفكيك وابتلاع المجتمع المدني

جرى تفكيك المجتمع المدني بقواه ومنظماته، تباعاً، بدفع من ميول تنموية أو اشتراكية تتمركز حول الدولة كفاعل رئيسي في عملية التحديث.

فأولا جرى إضعاف مؤسسة الملكية الخاصة بتحولات ابتدأت بالإصلاحات الزراعية التي قوضت الملكية العقارية الكبيرة، ومرت بتأميمات الرأسمال الخاص (1959 و 1964 تباعاً). بموازاة ذلك، توسع دور الدولة كمالك ومنتج اقتصادي، تعويضاً عن ضعف الرأسمال الأهلي، من جانب، ومسخاً له من جانب آخر. وبذلك حذفت قوة اجتماعية، هي نواة انفصال واستقلال المجال السياسي عن الاقتصادي.

الواقع أن زحف الدولة على مجالات المجتمع المدني، اتخذ أبعاداً قصوى في العهد الشمولي (1968-2003). فهذه الدولة الشرهة، بسطَت سيطرتها على الحياة الاقتصادية، مالكاً ومنتجاً. وكان نشوء الاقتصاد الأوامري أحد تجلياتها. وقد تحقق لها ذلك بفضل الفورة النفطية.

وعززت الريعية النفطية قدرة الدولة على امتلاك موارد هائلة مستقلة عن المجتمع، والقدرة على رشوة فئات اجتماعية واسعة، بل أمكن لها إعادة هيكلة طبقات رجال الأعمال المهمَشة، وحذف عناصر منها على أساس ديني أو جهوي أو إثني. وتمكنت من خلق مزيج من رأسمالية قرابية (أقرباء النخب الحاكمة) ورأسمالية خاضعة (crony)، فقدت مبادراتها السياسية، واعتمدت على الدولة كزبون، ومانح للعقود.

وأمكن لهذه الدولة، بفضل ريوع النفط، من أن توسع الطبقات الوسطى المعتمدة على الراتب، وأن تحقق لها ازدهاراً بيناً، في جانب، وأن تخضع جل هذه الطبقات لإيديولوجيا الدولة.

وفي هذا المجال ابتلعت الدولة أو أزالت كل الاتحادات الطوعية للطبقات الوسطى والعاملة، وألحقتها بنظام الحزب الواحد.

أخيراً، هيمنت الدولة الشمولية على مجال إنتاج وتوزيع الثقافة، بما في ذلك وسائل المعلومات والتدخل حتى في لغة التخاطب والاتصال.

هذا الإفراغ المستمر لكل مؤسسات المجتمع المدني جرى في ظل نظام شمولي تندمج فيه السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في هيئة عليا (مجلس قيادة الثورة)، مما أسبغ على السلطة، في البدء، طابعاً شديد التمركز، ثم أسبغ عليها طابعاً فردياً.

الحقل الثالث: الأزمة وعواقبها

لا نغالي إذا قلنا أن الريوع النفطية ساعدت في بناء وإرساء النموذج الشمولي، وأمدته بالوسائل اللازمة لانتصار الدولة على المجتمع المدني وتفكيكها إياه. غير أن الحرب العراقية – الإيرانية، أضعفت، بالتضافر مع انهيار أسعار النفط، هذه القدرات الهائلة للدولة الشمولية، فقلَصت إمكاناتها على تمويل الضمان الاجتماعي والخدمات الاجتماعية، كما أرغمها على البدء بإصلاح إداري، ثم فك جزئي للاقتصاد الأوامري (command economy) ولم تعد بقادرة على إدامة أجهزة عسكرية وأمنية ضخمة (جيش بنحو نصف مليون، وأجهزة أمنية بنحو ربع مليون، وجهاز إداري يناهز المليون). إن الريعية النفطية قوة عاتية بمعنيين: ثروة مجتمعية قابلة للإسهام في التنمية، وقوة قمعية قادرة على بسط جبروت النخبة الحاكمة. وقد قامت فعلاً بهذين الدورين معاً.

غير أن الأزمة التي احتدمت في أعقاب الحرب العراقية – الإيرانية، ثم في أعقاب حرب الخليج 90-1991، والحصار العاتي، أدَت إلى نشوء وضع فريد: دولة شمولية ضعيفة، ومجتمع مدني منهك، بل محروم من مؤسساته.

في هذا الوضع من الفراغ النسبي، نمت شبكات القرابة، وأشكال التنظيم القبلي، لتسدّ مسدّ مجتمع مدني مغيَب. وبرزت شبكات التضامن المحلي في صورة إعادة تنظيم للدين الشعبي حول الجوامع والشخصيات الدينية.

قامت هذه الشبكات، التي شجعتها الدولة، على ملء الفراغ وتقديم خدمات الأمن (الحماية الذاتية)، والقضاء القائم على الأعراف (بعد انهيار أجهزة القضاء والشرطة)، علاوة على التعاضد الاجتماعي (إسعاف الفقراء، الأيتام، العاطلين الخ…).

ارتبطت هذه المؤسسات التقليدية بإحياء القبائل، وهي جزئية تقوم على فكرة الانتساب بالدم (أيديولوجيا النسب) لا على فكرة المواطن، وبات شيخ القبيلة شخصية اجتماعية بارزة من جديد، بعد أن كاد النسيان يطويها في بلد كان يعدّ، منذ القرن التاسع عشر، مقبرة القبائل.

وارتبطت المؤسسات التقليدية أيضاً بالشيوخ الدينيين وأئمة الجوامع والمجتهدين (الشيعة)، وهي أيضاً تقوم على الروابط المحلية، والدينية، وتقترن بنشر رؤى اجتماعية – سياسية ذات منحى أصولي في بعض الأحيان (كالوهابية والخمينية).

لم تعد الدولة الشمولية راعياً اجتماعياً بعد أن قامت بـ تتجير commercialization الخدمات الصحية والتعليمية، ولم تعد منتجاً رئيسياً، لكنها بقيت محتفظة بأجهزة العنف المشروع، متقاسمة السلطة مع القوى ما قبل الحديثة التي أطلقتها.

لقد تحرَر المجتمع، جزئياً، من سيطرة دولة ميَالة إلى الاحتكار المطلق، لكن أفراده بقوا بلا مؤسسات مدنية.

لقد نمت طبقة رجال أعمال عليا، نمواً واضحاً. فعدد أصحاب المليون (ممن توفروا على إيراد يناهز المليون خاضع لضريبة الدخل) بلغ مثلاً 54 في نهاية العهد الملكي، ليرتفع إلى نحو 800 عام 1980، وإلى نحو 3000 بنهاية الحرب العراقية-الإيرانية (1988).

غير أن هذه الطبقات بقيت مفككة قطاعياً، وبقيت منقسمة إلى جماعات قديمة وحديثة، ذات ارتباط قرابى بالنخب الحاكمة، أو ارتباط بأجهزة المخابرات (ما يسمى بـ رأسمالية العباءة والخنجر). أما الطبقات الوسطى التي نمت من 28% عام 1958 إلى 34% عام 1968، فقد بلغت 54% من سكان المدن (عام 1990).

غير أن هذه الطبقات فقدت مكانتها، وانهارت أجزاؤها المعتمدة على الراتب انهياراً مدوياً خلال عقد التسعينات، وباتت ركاماً من فئات مهمَشة.

ولعل طبقة المهمشين الحضر التي بلغت 8% في عز الفورة النفطية في السبعينات، قد توسعت الآن توسعاً هائلاً.

خرج المجتمع المدني من الحرب الاخيرة، إذاً، فاقداً للمؤسسات والروابط الحديثة، فاقداً لثقافته الحضرية-العلمية، منغمساً في شبكة الروابط القبلية-الأسرية والدينية الأصولية، مشبعاً بقيم العنف، بعد ثلاث حروب عاتية.

لا نغالي إذا قلنا، أن بناء المجتمع المدني، مجدداً، سيبدأ مما يقرب من الصفر، في ظروف احتلال أجنبي لا يحظى بأي سند داخلي، بل تشتبك معه جل القوى المجتمعية في صراع سياسي مدني وسلمي لانتزاع الاستقلال الوطني.

أخيراً

إن المؤسسات التقليدية الحالية تقوم مقام مجتمع مدني مغيَب، وإن بقاءها أو تراجعها رهن بمدى النجاح في إرساء هياكل سلطة وطنية، وإعادة تأهيل مؤسسات المجتمع المدني، بأوجهها الأربعة: مؤسسة الملكية الخاصة المنفصلة عن الدولة، والمؤسسات الوسيطة والاتحادات الطوعية، ومجال المعلومات العام، المفتوح والشفاف.

ولن يتحقق مثل هذا البناء من دون قاعدته الأرأس: تحويل إنتاج الثروة إلى مجال اجتماعي مستقل عن الدولة، وبخاصة تحويل الريعية النفطية إلى ثروة بناء اجتماعي لا قوة قمع دولتية.. $

 

$.  عن الحوار المتمدن….

زر الذهاب إلى الأعلى