أثر العوامل الجغرافية على العمليات العسكرية
أثر العوامل الجغرافية على العمليات العسكرية
د. عادل عبد الزهرة شبيب
يرى بعض الاقتصاديين ان البناء الاقتصادي مسؤول عن التطورات والأحداث التاريخية وعن توجيه عمليات التغير الاجتماعي في المجتمع ,وان أي تغير في البناء الاقتصادي يؤدي الى تغير في البناء الاجتماعي , بمعنى ان أي تغير في شبكة العلاقات الاقتصادية يؤدي الى تغير في شبكة العلاقات الاجتماعية وذلك انطلاقا من فكرة العلاقة بين البناء التحتي للمجتمع والبناء الفوقي فيه . وهكذا فالبناء الاقتصادي للمجتمع لا يحدد فقط البناء الفوقي الكلي بل ويشكله ايضا . أي انه يشكل التنظيم السياسي والقانوني والفلسفة والعلم والأخلاق ذاتها .
كما يرى آخرون ان ( السياسة تعبير مكثف عن الاقتصاد ) ويعني هذا ان الاقتصاد يسبق السياسة دوما ويقودها ويوجهها نحو تحقيق مصالح الجماهير , مما يعني ان السياسة اداة من ادوات التنمية ولم يحدث ان انفصلت السياسة عن الاقتصاد , فكل منهما مكملا للآخر حيث هناك علاقة قوية بين السياسة والاقتصاد كون ممارسة العمل في مجال الاقتصاد تعتبر بمثابة الميدان الرئيسي للعمل السياسي , فالعديد من الممارسات الاقتصادية هي من صلب السياسة لأنها ذاتها تتأطر بمختلف الآراء السياسية وكذلك الأمر بالنسبة للسياسة حيث لا يمكن التعويل على السياسة دون وجود دعم اقتصادي قوي لها . فلا فصل للسياسة عن الاقتصاد ولا للاقتصاد عن السياسة وكلاهما وجهان لعملة واحدة وهذه هي حقيقة الأمر , فالاقتصاد يولد قرارا سياسيا والسياسة تولد قرارا اقتصاديا , ولا يمكن الفصل بينهما واذا انفصلا عن بعضهما شكلا هوة كبيرة في المجتمعات .
وفيما يتعلق بالعوامل الجغرافية فمنذ بدأ التاريخ استخدمت المعلومات الجغرافية لدعم العمليات العسكرية وذلك لوجود علاقة واضحة وأساسية بين الجغرافية والعمليات العسكرية . حيث ان العمليات العسكرية تجري في بيئات عملياتية مختلفة كالأدغال والصحارى والمحيطات والمدن .(1)
فالتضاريس هي المنطقة الطبيعية التي تدور المعارك عليها , وليست ثمة معركة او حملة عسكرية لا تلعب فيها الأرض والتأثير الشديد لعاملي الطقس والمناخ دورا حاسما في عملية اتخاذ القرار العسكري حيث يترتب على القادة واركان التخطيط تخطيط العمليات بما يناسب الأوضاع الطبيعية والمعركة . اذ ان للجغرافية تأثير كبير على النتيجة الحاسمة للحرب خاصة ما يتعلق بالأرض والطقس والمناخ .(2) طبعا اضافة الى العوامل الاخرى السياسية والاقتصادية والاقليمية والدولية وغيرها . وسبق للمفكر الصيني ( سون تسي ) ان قال قبل نحو 2500 سنة في كتابه القيم ( فن الحرب ): (( ان اولئك الذين لا يعرفون احوال الجبال والغابات والأودية الخطرة والسبخات والمستنقعات لا يمكنهم قيادة جيش ..)), وقالت العرب في امثالها :(( قتلت ارض جاهلها وقتل ارضا عالمها ..)) , كما اوصى الخليفة عمر بن الخطاب ( رض ) قائده سعد بن ابي وقاص قائلا له : (( اذا وطئت ارض العدو تعرف على الأرض كلها كمعرفة اهلها , فتصنع بعدوك كصنعه بك .)) (3) .
للموقع الجغرافي علاقة كبيرة بالسياسة الدفاعية او الهجومية التي تتبعها الدول حيث تسعى الدول القارية مثل روسيا الى تعزيز قوتها البرية بينما تسعى الدول البحرية مثل بريطانيا الى تعزيز قوتها البحرية . اذ ان للموقع الجغرافي اهمية كبيرة في اوقات الحرب والسلم على حد سواء , كما تكتسب الممرات المائية والمضائق واشباه الجزر ومصبات الأنهار والأودية والجزر التي تقع على طرق المعابر المائية اهمية استراتيجية كبيرة ومثال ذلك مضيق دوفر الانكليزي الذي وقف حائلا بين الجيوش الالمانية والقوات الانجليزية في الحرب العالمية الثانية , كما لعب مضيق مسينا الذي يفصل بين جزيرة صقليا عن البر الايطالي دورا استراتيجيا مهما في نفس الحرب , حيث عبرته جيوش دول التحالف في طريقها لألمانيا . ويعتبر مضيق ملاقا الذي يفصل بين جزيرتي سومطرة التابعة لإندونيسيا ودولة ماليزيا من الممرات التي تتمتع بأهمية استراتيجية عالمية . وكذلك الحال بالنسبة لمضيقي البسفور والدردنيل التركية التي تصل بين البحر الأسود بالبحر المتوسط . كما تتمتع بعض الجزر العالمية بمواقع جغرافية ذات اهمية عسكرية كبرى , سعت الدول المتحاربة الى السيطرة عليها لتحقيق تفوق استراتيجي وتكتيكي في الحرب . وسعى الجيش النازي للسيطرة على مدينة ستالينجراد الواقعة على نهر الفولغا من اجل استخدام النهر للتوغل في اعماق روسيا والوصول الى بحر قزوين .( 4) وكثيرا ما تهدد ايران بالسيطرة على مضيق هرمز في مدخل الخليج العربي لمنع تصدير النفط من المنطقة الغنية بنفطها .
ويلعب المناخ بعناصره المختلفة دورا مهما في التأثير على سير العمليات العسكرية , ولكل عنصر من عناصر المناخ له تأثيره على المقاتلين , فدرجة الحرارة تؤثر على راحة المقاتل وتحد من نشاطه العسكري والجسماني ويزداد هذا التأثير في حالة تواجد المقاتل في بيئة ذات درجات حرارة مغايرة للبيئة التي اعتاد عليها او موطنه الأصلي , فالحرارة المرتفعة تؤدي الى انهاك المقاتل خاصة اذا كانت العمليات العسكرية اثناء النهار وتحت اشعة الشمس فقد يصاب البعض بالإعياء والغثيان ويزداد وقع ارتفاع درجات الحرارة في حالة ازدياد نسبة الرطوبة في الجو مما يثقل من عملية التنفس لدى المقاتل وارتفاع درجة حرارة جسده بسبب انخفاض نسبة تبخر العرق مما يؤدي الى تراكم الحرارة كما تؤدي هذه الأجواء الى اصابة الجنود بالفطريات والأمراض .
كما يؤثر انخفاض درجات الحرارة دون الصفر المئوي بشكل كبير على حركة المقاتلين لا سيما ان كانت تحركاتهم في اماكن غير محمية او بدون تجهيزات تقيهم من التعرض للبرد . وقد يؤدي ذلك الى تجمد الأصابع والأطراف وتقلص الأوعية الدموية وتجلط الدم بها فتنتهي الحالة بالوفاة . فالانخفاض الشديد في درجات الحرارة الى ما دون الصفر المئوي يؤدي الى شلل حركة المقاتل خاصة الذين يعملون في اماكن غير محمية مثل جنود المشاة . ويمثل الطقس البارد المتطرف تحديا كبيرا امام العمليات العسكرية , فعلى سبيل المثال فقد القائد الفرنسي نابليون اكثر من ( 10000 ) من جنوده المائة الف الباقين اثناء تراجعه من روسيا في شتاء 1812 . كما بلغت اصابات البرد في صفوف الجيش الامريكي في الحرب العالمية الثانية اكثر من ( 91000 ) اصابة . حيث ان انخفاض الحرارة دون الصفر المئوي لفترة طويلة يؤدي الى تجمد الأطراف والتي قد يترتب عليها بتر او قطع القدم وهذا ما يتعرض اليه العسكريون في المناطق الثلجية الباردة .
اما بالنسبة للعنصر الثاني من عناصر المناخ فهو التساقط والذي يكون على عدة اشكال اما قطرات مائية او تلج او برد . وتختلف كمية التساقط ونوعيته من مكان الى آخر . فالمناطق الصحراوية وشبه الصحراوية تحظى بكميات قليلة من المطر وعادة ما يكون على شكل زخات رعدية ولفترات قصيرة وفوق مساحات محدودة , وتؤدي هذه الزخات العنيفة الى حدوث السيول العنيفة في اودية الصحاري والذي يصيب بالضرر العديد من المنشآت والأنشطة البشرية في تلك المناطق ومن ضمنها النشاط العسكري لاسيما اذا تزامنت هذه الامطار الاعصارية مع عمليات الهجوم وكذلك تؤثر هذه الامطار على سلاح الدروع ويتوقف هذا على نوعية التربة حيث تتكون الترب الطينية والهشة وتكوين الوحل والمستنقعات التي تعيق سير المقاتلين والاليات وتؤدي الى تكاثر العديد من الحشرات المزعجة او الناقلة للأمراض.
اما بالنسبة للمناطق غزيرة المطر فتساعد على نمو غطاء نباتي كثيف يعيق من حركة الجنود والاليات وخاصة القوات المهاجمة كما حصل للجيش الامريكي في فيتنام حيث ادت غزارة الامطار الموسمية في فصل الصيف على فيتنام الجنوبية مع اوحال الارض والغطاء النباتي الكثيف الى اشتداد ساعد قوات جبهة التحرير ضد القوات الامريكية .
كما يعد الضباب الذي هو احد انواع التكاثف القريب من سطح الارض من العناصر المهمة والمؤثرة في تغيير استراتيجية المعركة فقد يستغل كعنصر مباغتة وهجوم ولمختلف الصنوف وخاصة المشاة او لإعادة تنظيم القطعات المدافعة ومن الأمثلة على ذلك استغلال بريطانيا حالات الضباب في الانسحاب من ( دنكرك ) اثناء الحرب العالمية الثانية .
كذلك تؤثر الرياح كأحد العناصر الطبيعية على سير العمليات العسكرية خاصة في المناطق الصحراوية او شبه الصحراوية والتي تكون محملة بالأتربة والرمال وتؤثر على الاليات العسكرية وتعيق حركتها كما تؤثر ايضا على سير المشاة وتحليق الطائرات وخاصة المروحية . كما تؤثر على دقة تصويب السلاح للمدفعية والصواريخ وغيرها اذ تؤدي الى الانحراف. وللرياح ايضا دور فعال في انتشار مفعول الاسلحة الكيمياوية والبايلوجية والاشعاع الذري وعلى عمليات الانزال البحري , فلو زادت سرعة الرياح عن 24 كم / ساعة فإنها تعرقل امكانيات الهبوط بالمظلات . ولو زادت سرعة الرياح عن 80 كم / ساعة فإنها تعيق السفن بل وتحطمها وتعرقل الحركة على الارض وامكانات المناورة كلما زادت سرعة الرياح. (5). في عام 1709 حاول الملك السويدي شارل الثاني غزو روسيا خلال فصل الشتاء الروسي الا ان المناخ الشتوي الروسي قضى على القوات السويدية خلال ( حرب الشمال العظمى ) , وعندها قال القيصر الروسي بطرس الأول ( ان لديه قوة لا يستهان بها متحدثا عن شدة المناخ في روسيا ). كما لم يدرك هتلر النازي خطورة غزو الاتحاد السوفياتي السابق ولم يتعلم من تجارب من سبقوه على تلك الخطوة قبل عشرات العقود . ففي عام 1941 اثناء الحرب العالمية الثانية غزا هتلر الاتحاد السوفياتي بعملية عسكرية تسمى ( بارباروس ) هي الأضخم في التاريخ . في البداية نجح هتلر بالتقدم قرابة 50 ميلا داخل الاراضي السوفيتية ثم قرر التقدم اكثر من خلال عملية سماها ( الاعصار ) وبعدما اصبح بين الالمان وموسكو 90 ميلا فقط اشتدت الامطار والثلوج التي حولت الطرق الى بحور من الطين مما اعاق تقدم الالمان واجبرهم على التراجع مع ازدياد المقاومة السوفيتية التي تحولت لهجمات مرتدة منهم ضد الالمان . ومثلت تلك العملية نقطة مصيرية في الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة دول المحور ( المانية النازية وايطاليا الفاشية واليابان ) لينتحر بعدها هتلر بعد عدة اعوام .
كما مهدت السماء الصافية الشبه خالية من السحاب لإلقاء اول قنبلة نووية في الحرب العالمية الثانية على مدينة هيروشيما اليابانية من قبل امريكا . وكانت مدينة ( كوكورا ) تنتظر استقبال القنبلة النووية الثانية ولكن لحسن حظها كانت سماء المدينة ملبدة بالغيوم مما دفع بالامريكان الى القاء القنبلة على الهدف البديل ( ناجازاكي ). اما فيما يتعلق بمعركة ( ارمادا ) ففي عام 1588 أبحر فيليب الثاني ملك اسبانيا ليغزوا انجلترا ( البروتستانتية ) ولكن الرياح لم تقف بجانب الملك الإسباني وكان لها بالغ الأثر في خسارته بتلك المعركة لتسمى باسم ( رياح البروتستانت ) . ( 6) .
كما تلعب المسافة بين الدول دورا مهما في معظم الحروب عبر التاريخ , اذ ان الدول المتجاورة اكثر الدول عرضة للحروب فيما بينها كما شاهدنا ذلك في الحرب العراقية الايرانية البلدان المتجاوران وكذلك غزو العراق للكويت البلد المجاور للعراق .
من المبالغة القول ان المناخ والعوامل الجغرافية وحدها صاحبة التأثير بمعزل عن العوامل المهمة الاخرى السياسية والعسكرية والاقتصادية وعوامل المقاومة الشعبية.
وللأنهار دور مؤثر ايضا في العمليات العسكرية حيث شكلت الأنهار في فيتنام في حربها مع امريكا ميدانا ملائما لحرب المقاومة الوطنية كما لعبت الطرق المائية دورا متميزا في خدمة تكتيكات الثورة في مواجهة التقنية العسكرية الأمريكية المتطورة . واستفادت فيتنام من العوامل الجغرافية الطبيعية حيث تشكل الجبال والهضاب ثلاثة ارباع مساحتها اضافة الى كثرة الاعشاب والغابات فيها التي اعاقت تقدم القوات الامريكية الغازية كما تكثر فيها المستنقعات التي تعيق الحركة اضافة الى المناخ الفيتنامي الصعب .(7 ) . و كل هذه العوامل والمسالك كانت معروفة لدى الثوار الفيتناميين وغير معروفة لدى الغزاة وكانت النتيجة النهائية هي انتصار الثورة الفيتنامية وتوحيد شطري فيتنام بمساعدة العوامل الجغرافية اضافة الى دور المقاومة الفيتنامية وقائد الثورة ( هوشي منه ) .
المصادر :
1) فرانسيس جالجانو وايوجين بالكا / عرض د. مرتضى الجعلي / الجغرافية العسكرية الحديثة .
2) منبر التوحيد والجهاد / التضاريس وتأثيرها على العمليات العسكرية .
3) الجغرافية العسكرية / فيسبوك .
4) د. قاسم الدويكان / كتاب الجغرافية العسكرية .
5) بسام عبد الشريف عبد الصاحب / اثر المناخ على العمليات العسكرية في معركة بارباروس .
6) احمد محمد / كيف اثر المناخ في حركة التاريخ والثورات والحروب ؟
7) ابو الحسن قاسم / دراسة وتحليل الحرب الفيتنامية ومبادئ الحرب التي طبقها الأمريكيون .