الأسباب الموضوعية لفشل الثورات الإشتراكية الأولى
الأسباب الموضوعية لفشل الثورات الإشتراكية الأولى
د. سمير أمين
2019 / 6 / 20
1ـ مأساة الثورات الكبرى :
تتميَّز “الثورات الكبرى” بواقع أنها تندفع بعيداً إلى الأمام نحو المستقبل، خلافاً “للثورات العادية”، التي تكتفي بالاستجابة لمتطلبات التحولات المطروحة على جدول أعمال اللحظة.
في المرحلة الحديثة هناك ثلاث ثورات كبرى فقط (الفرنسية، والروسية، والصينية). الثورة الفرنسية لم تكن مجرد “ثورة برجوازية”، أحلَّت النظام الرأسمالي محل النظام القديم، وسلطة البرجوازية محل سلطة الأرستقراطية. فهي أيضاً ثورة شعبية (وفلاحية تحديداً) طرحت مطالبها التساؤل حول النظام البرجوازي نفسه. فالجمهورية الديمقراطية المدنية الجذرية، التي تستوحي مثالها من فكرة تعميم الملكية الصغيرة على الجميع، ليست نتاج منطق تراكم الراسمال المباشر (القائم على اللامساواة)، بل إنكار له (في إعلانها الواعي بأن الليبرالية الاقتصادية عدو للديمقراطية). بهذا المعنى، كانت الثورة الفرنسية تحتوي، مذ ذاك، بذور الثورات الاشتراكية القادمة، التي لم تتوافر شروطها “الموضوعية”، طبعاً، في فرنسا آنذاك (تشهد على ذلك الحركة البابوفية). الثورتان، الروسية والصينية (ويمكن أن نضيف لهما ثورتي فيتنام وكوبا)، وضعت لنفسها الشيوعية هدفاً. وهذا متقدم جداً، بدوره، على الموجبات الموضوعية لحل المشكلات المباشرة في المجتمعات المعنيَّة.
لهذا السبب، تتلقى كل الثورات الصدمة الناجمة عن استباقها زمنها. فبعد لحظات تجذرها القصيرة تتلاحق التراجعات، والعودات إلى الماضي. تعاني هذه الثورات، إذاً، صعوبات كبيرة، دائماً، في الاستفرار (استغرق استقرار الثورة الفرنسية قرناً كاملاً). في المقابل، تدشن الثورات الأخرى (كالأميركية والإنكليزية) عملية انتشار النظام بشكل ثابت وهادئ، مكتفية بتسجيل موجبات العلاقات الاجتماعية والسياسية القائمة في نطاق الرأسمالية الوليدة. لذلك، بالكاد تستحق هذه “الثورات” اسمها. فتسوياتها مع قوى الماضي، وغياب رؤياها للمستقبل، سمتان بالغتا الوضوح.
رغم فشلها، تضع الثورات الكبرى التاريخ على مدى أبعد. فمن خلال القيم الطليعية التي تحدد مشروعها، تسمح للطوباويات الخلاّقة بمتابعة غزوها للعقول، وتحقيق طموح الحداثة الأسمى، أي جعل الكائنات الإنسانية صنَّاع تاريخهم. وهذه القيم تتباين مع قيم النظام البرجوازي، النابعة من مسلكيّات التكيُّف السلبي مع مقتضيات توسع الرأسمال، المسمّاة موضوعية، التي تمدُّ الاستلاب الاقتصادي بكامل قوته.
2 ـ وزن الامبريالية، المرحلة الدائمة في التوسع العالمي للرأسمالية :
كان التوسع العالمي للرأسمالية استقطابياً دائماً، منذ أصوله، وفي كل مرحلة من تاريخه. لم تَلْقَ هذه الميزة في الرأسمالية القائمة بالفعل، على أهميتها، الاهتمام الضروري، وذلك بسبب النزعة المركزية الأوروبية التي تسيطر على الفكر الحديث، بما في ذلك الصياغات الأيديولوجية الطليعية الخاصة بالثورات الكبرى. ولم تنجُ الماركسية التاريخية للأمميات المتعاقبة إلاَّ جزئياً من هذه القاعدة العامة.
إنَّ فهم البعد الهائل لهذا الواقع الإمبريالي، واستخلاص المسائل الستراتيجية المتعلقة بتغيير العالم، تبعاً لهذا الفهم، يشكل ضرورة لا حياد عنها لكل القوى الاجتماعية والسياسية ضحايا توسع الراسمالية، في مراكزها كما في أطرافها. لأن ما طرحته الإمبريالية على جدول أعمال اليوم ليس نضوج الشروط التي تسمح “بالثورات الاشتراكية” في مراكز النظام العالمي (أو تسريع التحولات الذاهبة في هذا الاتجاه)، بل التشكيك بهذا النظام انطلاقاً من تمرد أطرافه وانتفاضاتها. وليس صدفة أن تكون روسيا 1917 “الحلقة الضعيفة” في النظام، ولا أن تنتقل الثورة باسم الاشتراكية نحو الشرق لاحقاً (الصين، مثلاً)، في حين تخيب توقعات انهيار الغرب، الذي وضع لينين آماله فيه. من هنا، تواجه المجتمعات المثوَّرة المعنية مهمة مزدوجة ومتناقضة في آن، هي “اللحاق” (وهذا يقتضي اللجوء إلى وسائل ومناهج مماثلة لما في الرأسمالية)، و”صناعة شيء آخر” (بناء الاشتراكية). كانت المزاوجة بين هذه المهمات كما كانت عليه، هنا أو هناك. كان يمكن لها أن تكون أفضل، ربما، بمعنى أن تسمح بتقوية التطلعات الشيوعية بالتزامن مع إنجازات اللحاق. ولكن يبقى أن هذا التناقض الفعلي يقع في صلب تشكل الشروط الموضوعية للتطور التاريخي في المجتمعات ما بعد الثورية. كانت أشكال التنظيم والعمل السياسيين، التي ابتدعتها “الأحزاب الثورية” (شيوعيو الأممية الثالثة بالدرجة الأولى) أسيرة الفكرة القائلة بأن الثورة “قادمة حتماً”، وأن شروطها الموضوعية قد اجتمعت. ولا ينقص “الحزب” إلاَّ بناء التنظيم المكلف بمهمة “فعل الثورة”. وكان هذا يفترض في تلك الظروف أن يتم التركيز على التجانس (“الوحدة الفولاذية”، فيما بعد)، وعلى النظام شبه العسكري. احتفظت الأحزاب المشار إليها بأشكال التنظيم هذه حتى بعد التخلي عن خيار الانقضاض الثوري المباشر منذ سنوات 1920. عندئذٍ وضعت في خدمة هدف ذي أولوية مختلفة: حماية الدولة السوفياتية، من الداخل كما من الخارج.
في أطراف الرأسمالية المعولمة ـ “منطقة العواصف” في النظام الإمبريالي ـ ظل شكل آخر من الثورة على جدول الأعمال. إلاَّ أن هدفه ظلَّ ملتبساً ومشوشاً: هل هو تحرر وطني من الإمبريالية (والإبقاء على الكثير، بل على الأساس من العلاقات الاجتماعية الخاصة بالحداثة الرأسمالية)، أم أكثر من ذلك؟ وظلَّ التحدي نفسه:”اللحاق” و/ أو “صناعة شيء آخر”؟ أكان ذلك متعلقاً بالثورات الجذرية في الصين وفيتنام وكوبا، أو غير الجذرية في مناطق أخرى من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وكان هذا التحدي يتمفصل بدوره مع مهمة أخرى اعتبرت أولوية كذلك هي الدفاع عن الاتحاد السوفياتي المحاصر.
3 ـ الدفاع عن الدول ما بعد الثورية في صلب الخيارات الاستراتيجية الطليعية :
وجد الاتحاد السوفياتي، وبعده الصيني، نفسيهما في مواجهة استراتيجيات عزل منهجي من جانب الرأسمالية المسيطرة والقوى الغربية. هل يجدر بنا أن نذكر بأن الولايات المتحدة، على مدى ثلث عمرها القصير، بنت استراتيجيتها، كقوة مهيمنة في النظام الرأسمالي، على هدف محدد هو تدمير هذين الخصمين، إشتراكيين كانا أم غير اشتراكيين؟ وهل نذكر بأن واشنطن تمكنت من أن تلحق بهذه الاستراتيجية حلفاءها في مراكز الثلاثية الأخرى وفي الأطراف، وأن تحل تدريجياً سلطة طبقات كومبرادورية محل السلطات النابعة من حركة التحرر الوطني ذات التوجه الشعبي؟
يفهم عندئذٍ لماذا أعطيت الأولوية عموماً لحماية الدول ما بعد الثورية، طالما أن الثورة لم تعد على جدول الأعمال المباشر. كل الاستراتيجيات السياسية التي وضعت ـ في الاتحاد السوفياتي أيام لينين وستالين وحلفائه، وفي الصين الماوية ثم بعد ماو والبلدان التي حكمتها أنظمة وطنية شعبوية، والطلائع الشيوعية (أكانت تحت راية موسكو، أو بكين، أو مستقلة) ـ كل هذه الاستراتيجيات تحددت بالقياس إلى المسألة المركزية : حماية الدول ما بعد الثورية.
لقد عرف الاتحاد السوفياتي والصين في آن معاً ترددات الثورات الكبرى وتواجها بنتائج التوسع المتفاوت للرأسمالية العالمية. وضحّى كل منهما، تدريجياً، بأهدافه الشيوعية الأولى في سبيل مقتضيات اللحاق الاقتصادي المباشرة. لقد حضر هذا الانزلاق، في التخلي عن هدف الملكية الاجتماعية الذي يعرِّف شيوعية ماركس، وإبداله بالإدارة الدولتية المترافقة مع أفول الديمقراطية الشعبية التي خنقتها الديكتاتورية الفظّة والدموية أحياناً،تسارع التحول نحو عودة الرأسمالية. وهو تحول مشترك في التجربتين كليهما على اختلاف المسارات التي أدت إلى ذلك. في الحالتين كانت الأولوية “للدفاع” عن الدولة ما بعد الثورية، وترافقت الوسائل الداخلية المستخدمة لهذا الغرض مع استراتيجيات خارجية مناسبة لها. عندئذٍ دُعيت الأحزاب الشيوعية إلى الالتحاق بهذه الخيارات، لا في الاتجاه الاستراتيجي العام وحسب، بل في التكيفات التكتيكية اليومية. وما كان هذا لينتج إلاَّ شحوباً سريعاً في فكر الثوريين النقدي، الذين ابتعد خطابهم المجرد بشأن “الثورة المرتقبة” عن تحليل التناقضات الفعلية في المجتمع، واستمرت لديهم أشكال التنظيم شبه العسكرية رغم كل المتغيرات.
حتى الطلائع التي رفضت الالتحاق، وتجرأت أحياناً على النظر إلى واقع المجتمعات ما بعد الثورية، لم تتخلَّ عن المقولة اللينينية الأصلية (الثورة المرتقبة)، دونما اعتبار لكون الوقائع تكذب هذه المقولة بشكل أكثر وضوحاً من يوم إلى آخر. ذلك كان حال التروتسكية وأحزاب الأممية الرابعة، وحال عدد كبير من المنظمات الثورية التي تستلهم الماوية أو الغيفارية. والأمثلة على ذلك كثيرة، من الفلبين إلى الهند، ومن العالم العربي إلى أميركا اللاتينية.
4 ـ بناء وطني و/ أو بناء اشتراكي في الأطراف المجذّرة :
اصطدمت حركات التحرر الوطني الكبرى في آسيا وأفريقيا، التي دخلت في نزاع مفتوح مع النظام الإمبريالي، مثلما اصطدمت الثورات التي قامت باسم الاشتراكية، بمقتضيات “اللحاق” وتحويل العلاقات الاجتماعية في صالح الطبقات الشعبية. على المستوى الثاني هذا كانت الأنظمة ما بعد الثورية أقل جذرية من الأنظمة الشيوعية. ولهذا السبب أطلق على الأنظمة الأولى صفة “الوطنية ـ الشعبوية”. مع ذلك استوحت هذه الأنظمة أشكالاً من التنظيم التي وضعتها تجارب “الاشتراكية القائمة فعلياً” (الحزب الأوحد ، لا ديمقراطية السلطة، إدارة دولتية للاقتصاد). إلاَّ أنها أذابت فاعلية هذه الأشكال بخياراتها الأيديولوجية المشوشة والتسويات التي ارتضتها مع الماضي. في هذه الشروط تحديداً دعيت هذه الأنظمة القائمة، مثلما دعيت الطلائع النقدية (الشيوعية التاريخية في البلدان المعنية) إلى دعم الاتحاد السوفياتي، والصين بنسبة أقل، والحصول على مساعدتهما. لا شك أن بناء هذه الجبهة المشتركة ضد العدوان الإمبريالي للولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين واليابانيين كان مفيداً لشعوب آسيا وأفريقيا. فقد أتاح هامشاً من الاستقلالية لمبادرات الطبقات الحاكمة من تلك البلدان ولعمل طبقاتها الشعبية، في آن معاً. البرهان على ذلك يقدمه الواقع الذي أصبحت عليه هذه البلدان بعد الانهيار السوفياتي. وحتى قبل هذا الانهيار لم تحصل الطبقات القائدة ذات التوجه “الغربي” على أية فائدة تذكر (المثال الأبرز على ذلك يقدمه السادات الذي اعتبر أن الولايات المتحدة تمتلك 90% من أوراق الصراع العربي – الإسرائيلي، وأن الصداقة معها تسمح بقلب الأوضاع لمصلحة القضية العربية والفلسطينية). على العكس من ذلك شجع استسلام هذه الأنظمة توسيع الاستراتيجيات الهجومية لدى الإمبريالية (وعزز بالمناسبة محور واشنطن ـ تل أبيب).
أما ما كان يمكن أن يثير الجدل فهي الشروط التي فرضها الاتحاد السوفياتي على القوى السياسية الملتزمة جانب الطبقات الشعبية في البلدان الحليفة (وتحديداً الأحزاب الشيوعية). كان يمكن للمرء أن يتصور أن هذه الأحزاب ستحتفظ، في الجبهة المعادية للإمبريالية، باستقلالية كاملة في حركتها، كاعتراف بالإزدواجية الإشكالية في المشاريع والمصالح الاجتماعية للشركاء الملتزمين بهذه الجبهة. لأن الطبقات القائدة كانت مستمرة في مشروع ذي طبيعة رأسمالية، رغم كونه “وطنياً”، في حين أن تلبية مصالح الطبقات الشعبية كانت تفترض تجاوز هذا الأفق الذي كشف التاريخ حدوده الضيِّقة. على العكس من ذلك غذَّت خيارات الدولة السوفياتية الأوهام التي حملها المشروع الرأسمالي الوطني في ذاته، وأضعفت بالتالي تعبيرات الطبقات الشعبية المستقلّة. وكانت بدعة “الطريق اللاّرأسمالي” المزعوم تعبيراً عن هذا الخيار.
لا شك أنه في تلك المرحلة ـ مرحلة باندونغ (1955 ـ1975) كان من الصعب التمييز بين مصالح الأنظمة ومصالح شعوبها. فالسلطات هذه كانت قد انبثقت لتوها من حركات تحرير ضخمة هزمت الإمبريالية في أشكالها القديمة (الاستعمارية وشبه الاستعمارية)، وترافقت أحياناً مع ثورات حقيقية (الصين وفيتنام وكوبا). كانت هذه الأنظمة لا تزال “قريبة” من شعوبها وتتمتع بمشروعية راسخة.
قَبِلَ الشيوعيون العرب، في غالبيتهم، مقترحات القيادة السوفياتية: إذ تحوّلوا، في أحسن الأحوال، إلى “جناح يساري” للأنظمة الوطنية الشعبوية المعادية للإمبريالية. وقدموا بالتالي دعماً لا نقد فيه تقريباً، وعملياً بلا شروط. ولعلَّ أبرز الأمثلة على هذا حل الحزب الشيوعي المصري نفسه سنة 1965 على أملٍ وهمي أن يُسمَح له بإعادة تنشيط الحزب الاشتراكي الناصري. وكذلك التحاق خالد بكداش في سوريا بمقولة أن ما هو قائم على جدول الأعمال لا يمكن أن يكون أكثر من بناء وطني، وإخفاء طبيعته الرأسمالية. لقد عبَّرت عن رأيي في هذه المسألة المركزية في مكان آخر، وتحديداً في مناسبة نشر مذكرات عدد من مناضلي تلك المرحلة في مصر. وكانت خلاصتي أن الشيوعية العربية، بمجملها، لم تخرج من الإطار الأساسي للمشروع “القومي الشعبوي”، متجاهلة أنه يندرج في خيار راسمالي صرف في نهاية المطاف. لم يكن هذا الخيار ظرفياً، ولا “إنتهازياً”، بل كان من طبيعة بنيوية يعكس النواقص الأصلية لدى هذه الشيوعيات، وتشوُّش الإيديولوجيات التي تحملها، وأخيراً جهلها بالطبقات الشعبية التي كانت مدعوّة للدفاع عن مصالحها الاجتماعية المباشرة والبعيدة المدى. وكانت نتيجة هذا الاختيار البائس أن فَقَدَ الشيوعيون مصداقيتهم ما إن بلغت الأنظمة القومية الشعبوية حدودها التاريخية، ودخلت مشروعيتها في مرحلة التآكل. وبما أن اليسار الشيوعي لم يقترح بديلاً يتجاوز الشعبوية القومية، فقد نشأ فراغ على المسرح السياسي فتح الطريق أمام انتشار الإسلام السياسي.
لا شك أن بعض الشيوعيين العرب هنا وهناك رفضوا هذا الالتحاق اللامشروط بالدفاع عن سياسة الدولة السوفياتية. وأمثلة “القوميين” في اليمن الجنوبي، وبعض الكتل “الماوية” تقدِّم شواهد على ذلك. إلاَّ أنَّ هؤلاء أيضاً لم يخرجوا من فرضية اللينينية الأصلية القائلة “بأن الثورة أصبحت وشيكة”. وكانوا في هذا يشاطرون الغيفاريين في أميركا اللاتينية والنكساليين في الهند الرؤيا نفسها. ويُثبت فشل الحركات الشجاعة التي استلهمت هؤلاء أن المقولة اللينينية تنبع من تبسيطية مأساوية، وأنها خاطئة في النهاية.
5 ـ فتح النقاش حول الانتقال الطويل إلى الاشتراكية العالمية :
بعد الاعتراف بخطأ لينين في تقديره للتحديات الواقعية ونضوج الشروط الثورية، علينا أن نذهب أبعد من النقد الذاتي لتاريخ الشيوعية في القرن العشرين، لكي نفتح نقاشاً مبدعاً ومكشوفاً في شأن الستراتيجيات الإيجابية البديلة للقرن الواحد والعشرين.
لن أعود هنا إلى ما سبق أن اقترحته في مكان آخر، بل ألخِّص الجوهري في النقاط الآتية:
I. علينا ان نتلمَّس ستراتيجيات تجيب على تحدي خيار “الانتقال الطويل”من الرأسمالية العالمية إلى الاشتراكية العالمية.
II. ستتمازج خلال هذه المرحلة منظومات اجتماعية واقتصادية وسياسية ناتجة عن الصراعات الاجتماعية لعناصر إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي، وعناصر تُطلق وتطوِّر علاقات اجتماعية اشتراكية. منطقتان متنازعتان في مزيج وتناقض دائمين.
III. الإنجازات على هذا الطريق ممكنة وضرورية في كل مناطق النظام الرأسمالي العالمي، في مراكزه الإمبريالية كما في أطرافه التي حُوِّلت إلى كومبرادور. بالطبع يجب أن تكون الستراتيجيات المرحلية لمثل هذه التحولات واقعية وخاصة بقوة الأشياء نفسها، وتحديداً فيما يتعلق بالتناقضات بين المراكز والأطراف.
IV. هناك قوى اجتماعية وأيديولوجية وسياسية تعبِّر من خلالها المصالح الشعبية عن نفسها، ولو في حالة من الغموض، بدأت تفعل في هذه الاتجاهات. إلاَّ أن هذه الحركات تقطر خيارات مختلفة، بعضها تقدمّي، وأخرى حاملة أوهام أو رجعية بوضوح (مثل الإجابات شبه الفاشية على التحديات). إنَّ تسييس السجالات بالمعنى الإيجابي والفعلي للكلمة يشكل شرطاً لبناء ما أسمّيه “التلاقي في التنوع” بين القوى التقدمية.
V. تشكِّل ضحايا التوسع الرأسمالي الليبرالي أكثرية في كل مناطق العالم. وعلى الإشتراكية أن تكون قادرة على تجنيد هذه الفرصة التاريخية الجديدة. وهي لا تستطيع ذلك إلاَّ إذا أخذت في الاعتبار التحولات الناتجة عن الثورات التكنولوجية التي غيَّرت في العمق هندسة البنى الاجتماعية. يجب ألاَّ تظل الشيوعية علم “الطبقة العاملة الصناعية” بالمعنى القديم للكلمة، فقط. لأنها تستطيع أن تصبح راية المستقبل لأكثريات واسعة من العاملين، بصرف النظر عن تنوُّع مراتبهم. إنَّ إعادة بناء وحدة العاملين، مَن يتمتّع منهم بوضعية مستقرة في النظام، ومَن هم مستبعدون منه، تشكِّل اليوم تحدياً رئيسياً للفكر الإبداعي للتجديد الشيوعي. في الأطراف يقتضي هذا البناء أيضاً تنظيم حركات واسعة قادرة على فرض حق الحصول على الأرض لكل الفلاحين. وتزداد إلحاحية هذا التجديد عندما نعرف أننا انتهينا بنسيان واقع أن الفلاحين يشكّلون نصف سكان الأرض، وأن الرأسمالية في جميع أشكالها عاجزة عن حلّ المشكلة الزراعية.
VI. إن استراتيجية عملٍ فعّال ضمن هذا الخيار المطلوب يجب أن تكون قادرة على إحداث اختراقات في اتجاهات ثلاثة: التقدُّم الاجتماعي، والديمقراطية، وبناء نظام عالمي متعدد المراكز. إن الديمقراطية السياسية المقترَحة كرفيق طريق لخيار الرأسمالية الليبرالية الاقتصادي هي على شفي إفقاد الديمقراطية كل مصداقيتها. وفي الاتجاه المعاكس، لم يعد مقبولاً فرض تقدُّم اجتماعي من فوق، بديلاً عن إبداع السلطة الديمقراطية للطبقات الشعبية لصيغ هذا التقدم وأشكال توسعه. لن تكون هناك اشتراكية من دون الديمقراطية، ولكن لا منجزات ديمقراطية من دون تقدُّم اجتماعي. أخيراً، ونظراً لواقع التنوع القومي (وتحديداً في الثقافات السياسية التي ترسم هذا التنوُّع)، واللامساواة الناتجة عن تاريخ توسع الرأسمالية العالمية، فإن فتح الآفاق التي تمكِّن من تحقيق اختراقات اجتماعية وديمقراطية يفرض بناء نظام عالمي متعدد المراكز. والشرط الأول لذلك، هو، بالطبع، إلحاق الهزيمة بمشروع واشنطن الرامي إلى السيطرة العسكرية على الكوكب.. $
$. عن الحوار المتمدن…..