الدرسُ التونسي بعينٍ عراقية: -الديمقراطية- بين الانتقال النمطي والاستثناء الراديكالي
الدرسُ التونسي بعينٍ عراقية: -الديمقراطية- بين الانتقال النمطي والاستثناء الراديكالي
د. فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)
2021 / 7 / 28
لن أناقش هنا مدى دستورية الحدث التونسي الراديكالي الذي وقع ليلة 25 تموز/ يوليو 2021 أو مدى انقلابيته. ما يهمني في هذا النص هو أن هذا الحدث (أي قيام رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد، بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية وحدوث طفرة كبيرة في جائحة كورونا وغضب شعبي متصاعد، بتجميد مجلس النواب ورفع الحصانة عن نوابه وإعفاء رئيس الوزراء، وقيامه شخصياً بتولي السلطة التنفيذية ومنصب النائب العام للكشف عن ملفات الفساد)، قد طرح بالضرورة استفهامات أساسية عدة، دون إمكانية الإجابة اليقينية عليها حالياً، هي:
• إلى أي مدى يمكن الحديث عن فاعلية أو جدوى الانتقال الانتخابي البرلماني المتدرج نحو الديمقراطية (الأنموذج الليبرالي تحديداً)، في دول ينخرها الفساد وتغوّل الدين السياسي (حزب حركة النهضة التونسية مثالاً) حد الاستيطان الزبائني في أغلب المؤسسات الرسمية وتحويلها إلى إقطاعيات سياسية ومالية؟ وهذا استفهام واقعي قد يحفز لتقديم مقاربات نظرية تجديدية لإشكالية المفاضلة (أو لمن الأولوية) بين مفهومي الحرية والعدالة، مع لحاظ أن التجربة التونسية هي الأكثر نضجاً بين تجارب الربيع العربي منذ 2011 وحتى اليوم.
• وإلى أي مدى يمكن الحديث عن تطور حقيقي في الثقافة السياسية وما يتصل بها من احترام ثابت للسياقات الدستورية، في بلدانٍ يشكل العامل الاقتصادي – القائم على نهب الأقلية المالكة لحقوق الأكثرية الفاقدة- العمودَ الفقري المتحكم ببناها السياسية والثقافية؟ فما يحدث اليوم في تونس يضعنا من جديد أمام المفاضلة الجدالية التقليدية بين اختيار أنموذج التدرج الديمقراطي المؤسساتي المتريث وبين الاستعانة العاطفية بأنموذج الزعيم (أي الخيار الفردي “السحري”) المدعوم شعبوياً.
• وإذا اتفقنا على أن تغول الدين السياسي في تونس (وهو بلد لا يعاني من التمذهب الطائفي)، وتحوله إلى إداة شافطة للمال العام وهادمة لقيم النزاهة والضمير المهني، قد أدى بالضرورة إلى عرقلة التحول الديمقراطي التقليدي البعيد المدى من دولة الاستبداد إلى دولة المواطنة، فليس من الواضح ما إذا كان الحدث الاستثنائي الذي اضطلع به الرئيس التونسي يعكسُ إجراءً سلطوياً اختارته الدولة العميقة لتأمين مصالحها، أم يعكسُ صدى شعبياً لإرادة أغلبية مجتمعية تونسية تريد تطويق الفساد وتصحيح الاختلال العميق في الممارسة الديمقراطية ببعدها العدالوي الاجتماعي!
• وبعد كل هذا أتساءلُ: بعد عشر سنوات من التجربة “الديمقراطية” في تونس، هل نحن أمام خصوصية تونسية لإصلاح المسار بإجراءات استثنائية مؤقتة دون التفريط بخيار التحول الديمقراطي؟ أم إننا في بداية هبة شعبوية، تقفز في الفراغ رغبوياً للتعبير عن خيبة الأمل من التمسك بآليات دستورية لم تحقق إلا الفقر والبؤس وتجيير ثروات البلاد لصالح أقلية متوحشة؟ وبعبارة، هل هي عودة لدور الفرد الكارزماتي المستبد “الفائق القدرة” لـ”استعادة” العدل والحقوق بعد اليأس من الأداء المؤسساتي الجماعي؟ أم هي مناورة يتفرد بها الوضع التونسي للجمع بين العامل الفردي “الخلاصي” والعامل المؤسساتي الجماعي، لتطويق الأزمة ومنع الانهيار المتوقع لوظيفة الدولة؟
* * *
أرجّحُ أن الدرس التونسي – أياً كانت مساراته ومآلاته القادمة- سيجد صداه لاحقاً في كافة البلدان العربية التي عاشت حراكاً شعبياً “إصلاحياً” منذ 2011، بما فيها التجربة العراقية التي توجتها ثورة تشرين 2019 غير المكتملة؛ مع التسليم بوجود اختلاف مهم في عدد من الظروف التاريخية والمرحلية بين تونس وبقية البلدان.
وهذا الصدى لن يستمد صوته من التأثر والتأثير السيكوسياسي الارتدادي المتوقع فحسب، بل يستمده بالأساس من الفشل المستمر للأنظمة الحاكمة في إيجاد تفاعل متزامن -إلى حد ما- بين آليات التحول الديمقراطي الشكلي (دساتير وبرلمانات وانتخابات وحرية تعبير) وبين الإصلاح الاقتصادي الداعم لحقوق الفئات المحرومة والمتضررة (توفير العمل المجزي والضمانات الاجتماعية والخدمات، وتطويق الفساد).
وإذا كان التطور السياسي والدستوري للدولة التونسية، وتماسك مؤسسة الجيش، وعمق النشاط النقابي، فضلاً عن النضج الحداثوي المتراكم في القيم المجتمعية، يمكن أن يتيح الفرصة لإجراءات استثنائية فوقية غير عنفية لإيجاد مخرج آني أو مؤقت للأزمة العميقة التي تمر بها البلاد حالياً، فإن هذه الإمكانية “الناعمة” لا يبدو أنها متوافرة في بلدان أخرى.
ففي العراق مثلاً، فإن تسييس الهويات الإثنية المغلّفة بتوافقات “ديمقراطية” هشة، مرشحٌ لأن يمارس دوراً أساسياً تضامنياً مع عوامل الفساد والاقتصاد الريعي الطفيلي، لإنتاج تصدعات دولتية جسيمة تتجاوز الوضع التونسي بمراحل، لا سيما في ظل مَلْيشةِ الدولة لتوظيف العنف السياسي المنظم ضد الخصوم مقترناً بالإفلات من العقاب، وفي ظل تحول الحكومة “الافتراضية” الحالية إلى شاهد زور أو طرف غير مبالٍ لا يهتم إلا بإظهار نرجسيته الوقائية إعلامياً في أحسن الأحوال.
وبذلك يتلخص الدرس التونسي عراقياً بالآتي: إن الإطار “الديمقراطي” الانتخابي الذي تستعين به المنظومة السياسية الفاسدة الحالية في العراق، لا يعدّ ضامناً لبقائها أو استمراريتها، خصوصاً مع أفول هيمنتها الثقافية وتفكك سيطرتها المؤسساتية واضمحلال شرعيتها السياسية المُدرَكة. فالاستثناء الراديكالي يبقى احتمالاً بديلاً عن “شرعية” القاعدة البرلمانية المنخورة. وهذا الاستثناء بات يشتد مع اشتداد الاستقطاب السياسي الحالي الحاد، إذ تستغرق المنظومة في قطبية أوهام “المناعة” و”المعصومية” دون أي إشارة منها لاحتمالية تقديم تنازلات جزئية تحفظ كينونة الدولة والوطن، في مقابل قطبية شعبية احتجاجية مستميتة لإنجاز التغيير.
إلا أن هذا الاستثناء العراقي لا يتوقع منه أن يكون بـ”نعومة” الاستثناء التونسي، إذ تتوزع السلطة في العراق أفقياً بين مراكز اوليغارشية متعددة متوافقة ومتناحرة معاً دونما هرمية مركزية محددة. وهذا قد يدفع الحدث نحو هزات عنفية مريرة لنقل “الشرعية” السياسية راديكالياً من قطب إلى قطبٍ آخر مغاير، يرافقه حرقٌ لأنموذج التحول الديمقراطي الإصلاحي النمطي، وإعلاءٌ متجدد لنظرية “الثورة” أو ربما نظرية “الفوضى”…… &
&. عن الحوار المتمدن….