القانونيةالمقالات والبحوث

الرقابة القضائية على تقدير العقوبة التأديبية في العراق ــ دراسة مقارنة

الرقابة القضائية على تقدير العقوبة التأديبية في العراق ــ دراسة مقارنة

الرقابة القضائية على تقدير العقوبة التأديبية في العراق

(دراســـة مقارنــة)

               الدكتور محمد صباح علي

               رئيس مركز بغداد للتنمية القانونية والاقتصادية  

 

يتناول موضوع الرقابة القضائية على تقدير العقوبة التأديبية، وتركز فيه على بحث ودراسة القضاء للقرارات الصادرة، والمطعون بها من السلطة التأديبية المختصة بتوقيع العقوبة على الموظف المخالف، حيث تشكل هذه الرقابة ضمانه مهمة للأفراد في ملاحقة أعمال الإدارة، وكذلك بحث سلطة القضاء الإداري في التأكد من وجود الواقعة المشكلة ذنباً بحق الموظف، والتكييف القانوني السليم لها لإختيار العقوبة المناسبة، والمطابقة مع بيان سلطات القضاء إزاء الفهم الخاطئ، والقرار المعيب الصادر من قبل الإدارة، وما يتخذه القاضي من سلطات فى هذه المرحلة التي تمثل الفرصة الأخيرة للموظف في إلغاء القرار المعيب أو تخفيف العقوبة التي تمثل الضمانة المهمة التي يحميها القضاء؛ مع بيان إمكانية القاضي في الحكم للموظف بالتعويض نتيجة خطأ الإدارة في تقدير العقوبة التأديبية وكذلك كيفية تقدير التعويض للموظف مع بيان الحالات التي يكون فيها الخطأ أساسه الموظف أو الإدارة.

مقدمة البحث:

بالنظر إلى عدم تحديد الجرائم التأديبية على سبيل الحصر، وإيرادها في شكل مقنن من قبل المشرع مقابل العقوبات التأديبية، وعدم وجود ترابط بين؛ هذه الجرائم، والعقوبات التأديبية المقابلة لها كمبدأ عام في القانون التأديبي للوظيفة العامة نتيجة لذلك قام القضاء الإداري بفرض رقابته على عنصري السبب، والمحل في القرار التأديبي للتحقق مما إذا كان هناك وصف للجريمة التأديبية  من عدمه سواء من الناحية المادية أو القانونية، بالإضافة الى العقوبة الموقعة تتوافق نوعاً ومقداراً مع جسامة وخطورة الجريمة المرتكبة أم لا، وفي هذا المبدأ يعدُّ القضاء المصري بدأ وبشكل صريح ومباشر بفرض رقابته على مدى تناسب الجريمة مع العقوبة في مجال التأديب اعتباراً من تاريخ ظهور نظرية الغلو كذلك بدأ القضاء الإداري الفرنسي يمارس دوره في الرقابة على العقوبات التأديبية الموقعة من خلال الإدارة وذلك من خلال نظرية الغلط البين، وكذلك مارس القضاء العراقي رقابة التناسب على العقوبة الموقعة من قبل الإدارة وإصدار قرارات عديدة في هذا الشأن ، ويعدُّ هذا النوع من الرقابة الذي يمارسها كل من مجلس الدولة المصري والفرنسي الذي لم يتم تطبيقه بصورة مباشرة، بل سبق تطبيق هذا النوع من الرقابة صوراً أُخرى تتمثل في رقابة الوجود المادي للوقائع ورقابة التكييف القانوني للوقائع، وفي ذلك تتعدُّد درجات الرقابة القضائية على القرار الإداري، فتبدأ بالرقابة الدنيا، وهي رقابة الوجود المادي للوقائع  ثم الرقابة الوسطى، وهي الرقابة على التكييف القانوني للوقائع حتى تصل إلى الرقابة القصوى، وهي الرقابة على أهمية وخطورة السبب، وللقضاء، والقاضي إزاء الرقابة على الوجود المادي، والتكييف تحليل الوصف والواقعة السليمة التي تنطبق مع العقوبة المفروضة، وفي حالة خروج الإدارة عن الوصف والواقعة، تنهض بذلك صلاحيات القاضي الذي له الحق في إلغاء القرار المخالف للمشروعية أو تخفيف العقوبة والتعويض في حالة ما إذا أصاب الموظف بذلك ضرراً من إجراء عدم الارتباط بين السبب والمحل. ولتسليط الضوء على ما سبق من أفكار تستهدفها الرقابة القضائية في عملها للتحقق من عمل السلطة الإدارية في تقدير العقوبة التأديبية من أن عملها جاء مطابقاً للقانون ومستهدفاً مبدأ المشروعية لابد من تأسيس خطة بحث تتجلى من خلالها عمل السلطة القضائية وحدودها من خلال ما تقوم به من رقابة فاعلة وشاملة تناسب بين خطأ الموظف وسلطة الإدارة تجاه هذا الخطأ وعدم تغليب أحدهما على الآخر مراعية في ذلك تحقيق المصلحة العامة.

 

مشكلة البحث:

تكمن مشكلة البحث فى أن السلطة الإدارية في مجال المخالفات التأديبية تتمتع بسلطات واسعة فهي تجمع بين يدها سلطة الاتهام والعقاب نتيجة غياب تقنين للمخالفات التأديبية وإسناد الأمر في ذلك إلى السلطة الإدارية التي تمارس هذه المهمة وقت تقديرها مما يعني أن الموظف سيكون تحت سلطة الإدارة التقديرية التي ينطوى في مضمونها خطر كبير على الموظفين وحقوقهم إذا مارستها الإدارة خارج الإطار القانوني المحدد لها، فيأتي دور القضاء هنا ليكون ضمانة هامة وصمام أمان للموظف تجاه هذه السلطة التقديرية التي تتمتع بها الإدارة من خلال الرقابة القضائية التي يمارسها للتأكد من صحة عمل الإدارة في ممارسة سلطتها التقديرية في إيقاع العقوبة التأديبية من خلال رقابته العميقة في دراسة الوجود المادي والتكييف القانوني للوقوف على التقدير الصحيح.

أهمية البحث:

تأتي أهمية البحث من أهمية دور الرقابة القضائية وأثرها في نفوس الموظفين وإيمانهم بها من خلال دورها في مواجهة الإدارة والوقوف أمام قراراتها إذا ما ثبت مخالفتها للقانون وخروجها عن مبدأ المشروعية فيولد شعور لدى الموظف بوجود حصانة لحقوقه إذا ما انتهكت من قبل الإدارة وتمارس هذه الحصانة السلطة القضائية التي تعمل على إعادة هذه الحقوق في حالة انتهاكه.

 

 

أهداف البحث:

تتضمن الأهداف التي يتوخى البحث الوصول إليها كالآتي:

  1. دراسة الرقابة القضائية على تقدير العقوبة التأديبية.
  2. بيان سلطة القاضي الإداري إزاء خطأ الإدارة في تقدير العقوبة التأديبية.

منهجية البحث:

اعتمد البحث المنهج المقارن في دراسة الرقابة القضائية على تقدير العقوبة التأديبية بين كل من فرنسا ومصر والعراق باعتبار أن هذه الدول تعتبر كإرث قضائي وقانوني لجميع الدول تنهل منها من أجل تطوير قضاءها الإداري من خلال التطبيقات القضائية لمجلس الدولة الفرنسي والمصري الذي له الأثر الواضح على قضاء هذه الدول ومنها العراق.

تقسيم البحث:

قسم البحث الي مقدمة ومبحثين مع أهم النتائج والتوصيات التي توصل إليها البحث.

المقدمـة.

المبحث الأول: طبيعة الرقابة القضائية على تقدير العقوبة التأديبية.

المطلب الأول: رقابة الوجود المادي المنسوب للموظف.

المطلب الثاني: رقابة صحة التكييف القانوني للوقائع.

المبحث الثاني: سلطة القاضي الإداري إزاء خطأ الإدارة في تقدير العقوبة التأديبية.

المطلب الأول: إلغاء القرار الإداري لعدم مشروعية العقوبة التأديبية.

المطلب الثاني: تخفيف العقوبة التأديبية.

المطلب الثالث: الحكم بالتعويض للموظف عن التقدير الخاطئ للعقوبة التأديبية.

 

المبحث الأول

طبيعة الرقابة القضائية على تقدير العقوبة التأديبيةفي العراق

يقوم عنصر السبب في القرار الإداري على ثبوت وقوع فعل مادي محدد سلبياً أكان أم أيجابياً يمكن أن يشكل جريمة تأديبية في نظر القانون، وهو ما يجعل رقابة القضاء الإداري على عنصر السبب في القرار التأديبي تنصب بداية على صحة الوجود المادي للوقائع المكونة لذلك الفعل، فإذا ما تحقق ثبوت هذه الوقائع مادياً انتقل القضاء للرقابة على التكييف القانوني الذي وصفته سلطة التأديب على تلك الوقائع للتأكد مما إذا كان هذا التكييف سليماً من عدمه، ويضطلع القاضي الإداري برقابة التكييف القانوني للأفعال المنسوبة للموظف المتهم تأديبياً، حيث يراقب في ذلك مدى سلامة وصحة تكييف السلطة التأديبية لتلك الوقائع، والبحث عما إذا كان وصف السلطة التأديبية لتلك الأفعال وصفاً لا ينطوي على تحريفها، وكذلك سلامة تفسيرها للوقائع؛ لأن الابتعاد عن الحقيقة في تفسير الوقائع سيغير الوصف الحقيقي من الوجود المادي للوقائع التي بوصفها ينشئ السبب بإصدار القرار التأديبي هذا،وفرضت هذه الرقابة على أغلب القرارات التي تصدرها الإدارة حتى سميت من جانب الفقه بالرقابة الأعتيادية، وتتمثل في فحص سبب القرار التأديبي للتأكد من مشروعيته فبعد أن ثبت للقاضي الإداري أن الوقائع المادية التي بني عليها القرار التأديبي قائمة وصحيحة، فإنه ينتقل إلى المرحلة الثانية، وهي رقابة التكييف للتأكد من مدى صحة الوصف القانوني الذي وصفته السلطة التأديبية بحق الموظف واستناداً لما سبق سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين نتناول فيهما ما يلي:

المطلب الأول : رقابة الوجود المادي للوقائع المنسوبة للموظف.

المطلب الثاني : رقابة صحة التكييف القانوني للوقائع.

المطلب الأول

 رقابة الوجود المادي للوقائع المنسوبة للموظف

أضحت الرقابة على الوجود المادي للوقائع من المسلمات في الفقه والقضاء الإداريين العربي والمقارن على السواء، وهي تتمثل باختصار في بحث القضاء الإداري عما إذا كانت الوقائع التي اتخذتها الإدارة أساساً لقرارها قد حدثت فعلاً أم لا ، أي ما إذا كان لها وجود مادي من عدمه، وتمثل الرقابة القضائية على صحة الوجود المادي للوقائع التي يقوم عليها القرار الإداري بوجه عام الحلقة الأولى للرقابة على عنصر السبب([1]).

ويذهب الفقه إلى تعريف الوقائع المادية بإنها الحقائق الأساسية الأولية التي يراها الناس أو يسمعونها أو يقومون بها وتسمى هذه الرقابة بالرقابة الدنيا؛ لإنها تمثل أدنى درجات الرقابة القضائية على عنصر السبب في القرار الإداري([2]).

وإذا ثبت عدم وجود الحالة المادية أو عدم تحققها، فإن ذلك يفرغ القاعدة القانونية من محتواها؛ لأنه من غير المتصور أن توضع القاعدة القانونية موضع التنفيذ إزاء واقعة وهمية ليس لها أساس في الواقع، فيعمل القاضي الإداري رقابته على تلك الواقعة في ماإذا كانت حدثت حقاً وصدقاً في الواقع التي بررت صدور القرار لمواجهتها، وإذا تبين للقاضي أن صدور القرار لم يستند إلى واقعة حدثت بالفعل، فإن رجل الإدارة أقام قراره على خطأ على حالة أخرى غير تلك التي ينبغي أن يقوم عليها، ومن ثم لا يمكن أن تخدم هذا الوصف القاعدة القانونية العامة والمجردة([3]).

وتمثل المشروعية المادية للقرار الإداري في أن يقوم القرار على حالة واقعية أو قانونية صحيحة أو على سبب صحيح يوافق محله القانون، فإذا لم يرتكب الموظف أي إخلال بواجبات الوظيفة أو يخرج على مقتضياتها، فلا يكون ثمة مخالفة تأديبية، ولا محل للجزاء التأديبي لانتفاء الوجود المادي للوقائع المبررة لذلك ([4]).

ومهما كانت السلطة التقديرية التي تتمتع بها الإدارة في اتخاذ القرار، فإن ذلك لا يمنع القاضي الإداري من فرض رقابته على صحة الوقائع المادية التي استند إليها القرار التي كشفت عنها الإدارة، وتأتي رقابة القضاء الإداري على الوجود المادي للوقائع سواء كانت الإدارة حسنة النية، أي ظنت خطأ وقوع تلك الوقائع التي تدعيها أو سيئة النية، أي كانت عالمة بإقدام الموظف على آتيان هذه الوقائع، وفي كلتي الحالتين يلغي القرار لقيامة على وقائع غير سليمة([5]).

ومجلس الدولة الفرنسي لم يمارس رقابته على الوقائع عند إنشائه، إذأن رقابته هي رقابة قانونية، حيث لا يحكم بإلغاء القرارات إلا إذا كانت مشوبة بعيب في الشكل أو في الاختصاص أو أن هناك انحراف بالسلطة ، غير أن بعد أن تخلص القضاء الفرنسي من الاعتبارات والظروف التاريخية المحيطة به بدأ يبسط رقابته تدريجياً على الوقائع المادية المبررة للقرارات الإدارية المطعون فيها أمامه([6]).

وتحول مجلس الدولة الفرنسي من مرحلة الامتناع عن رقابة مادية الوقائع المبررة لإصدار القرار المكون لركن السبب فيه إلى بسط رقابته على الوقائع سنة 1917 في قضية(moni)التي تدور وقائعها حول أن الإدارة اتخذت قراراً بإحالة أحد الموظفين إلى التقاعد بناءً على طلبه، وادعت أنه قدم طلباً لإحالته إلى التقاعد إلا أن الموظف لم يرضَ بقرار الإحالة إلى التقاعد، وطعن، مؤسساً دعواه أنه لم يقدم أي طلب لإحالته إلى التقاعد، فنظر مجلس الدولة الفرنسي في هذا الطعن، وفحص مدى صحة الوجود المادي للوقائع أواحقية تقديم طلب الاحالة للتقاعد، واتضح له صحة دعوى الطاعن بأنه لا يوجد طلب مقدم من الطاعن لإحالته إلى التقاعد، ولكن لم يقرر إلغاء قرار الاحالة للتقاعد لسببآخر مختلف، إذ تعمدت الإدارة اخفاء السبب الحقيقي رأفة وشفقة بالموظف، واختلقت واقعة تقديم طلب الاحالة إلى التقاعد رغم علمها اليقيني بعدم وجود طلب الاحالة مادياً، وإن المجلس رفض إلغاء القرار باعتبار أن الطاعن توافرت فيه شروط السن، ومدة الخدمة التي يتطلبها القانون للإحالة إلى التقاعد وإن هذا القرار لا يعدُّ ذا طبيعة تأديبية، وإذا كان القرار أشار خطأ إلى أن هذه الاحالة صدرت بناءً على طلبه، فإن عدم صحة هذه الاشارة ليست من ظروف الدعوى مما يعيب القرار لعدم مشروعيته([7]).

ويؤكد مجلس الدولة الفرنسي اختصاصاته برقابة مادية الوقائع، وقضى بأنه يتبين من أنه على الرغم من السلطة التقديرية التي يتمتع بها، وزيري الحرب في تقدير، وتقيم كل ما من شأنه المساس بمصلحة المرفق، فإن ذلك لا يعطيه الحق في أن ينسب إلى أحد الضباط سلوكاً معيباًمن دون أن يكون مستنداً في ذلك إلى وقائع مادية صحيحة؛ فلهذا  الغى المجلس قرار الوزير المتضمن إحالة ذلك الضابط المذكور إلى الاستيداع بحجة اقترافه لبعض الاخطاء التأديبية بعد أن تيقن من أن الطاعن لم يرتكب تلك الافعال، ولم تكن صحيحة([8]).

وبذلك فإن قرار المجلس سجل مرحلة جديدة من مراحل التطور من نظام رقابة القاضي على الوجود المادي للوقائع، حيثبدأ المجلس بالتحقق من الوجود المادي للأفعال التي أدت إلى تبني الأجراء المتخذ.

وأيد مجلس الدولة الفرنسي الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا في قضية المركز الطبي الذي ألغى القرار الصادر بتاريخ 26 / 3 / 1976 بفصله من وظيفته كسائق بالمركز الطبي؛ وذلك كعقوبة تأديبية بسبب سوء سلوكه العام مع حفظ حقه في المعاش، إذ تبين لدى المجلس في هذه الدعوى أن السائق المفصول كان يعاني من مرض عالجه لسنوات عدة مما جعله غير مسؤول عن الأفعال المنسوبة إليه من المركز الطبي، ومما لا يسمح بالتالي بفرض أي عقوبة تأديبية ضده بسبب تلك الافعال([9]).

أما عن موقف محكمة القضاء الإداري المصري من رقابة الوجود المادي للوقائع، إذ اخذت المحكمة على عاتقها إلغاء القرارات الإدارية التي يتضح  لها إنها استندت إلى وقائع غير صحيحة، ومن نصوصها في ذلك قولها ” إذا كانت الإدارة تستقل بوزن مناسبات قراراتها وبتقدير ملائمة أو عدم ملائمة إصدارها من دون أن يكون للقضاء الإداري التعقيب عليها في هذا الشأن إلا أن مناط ذلك أن تكون الإدارة قد استندت في قرارها إلى وقائع غير صحيحة مؤدية إلى النتيجة التي انتهى إليها القرار”([10]).

وأخذت بذلك النهج المحكمة الإدارية العليا المصرية في مدّ رقابتها للوقائع المبررة لاتخاذ القرارات الإدارية للتحقق من صحة وجودها إذ تقول ” أن رقابة القضاء الإداري تجد حدها الطبيعي في التحقق مما إذا كانت النتيجة التي انتهى إليها القرار مستمدة من أصول موجودة أو غير موجودة وما إذا كانت هذه النتيجة مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً وقانونياً أم لا، إذ يتوقف على وجود هذه الأصول أو عدم وجودها، وعلى سلامة استخلاص النتيجة التي انتهى إليها القرار في هذه الأصول أو تساعدها على صحة هذا التكييف القانوني للوقائع بفرض وجودها مادياً أوعدم صحة هذا التكييف  يتوقف على هذا كله قيام أو عدم قيام ركن السبب في القرار الإداري ومطابقته أو عدم مطابقته للقانون” ([11]).

وتعرضت المحكمة الإدارية العليا المصرية إلى انتقادات بسبب اختلاف قضائها في فترة معينة عن قضاء محكمة القضاء الإداري التي تشددت في بحث مدى صحة الواقعة التي دفعت السلطة الإدارية إلى إصدار قراراتها([12]).

غير أن قضاء المحكمة الإدارية استقر على بسط رقابته على مادية الوقائع، وعبّر عن طبيعة دورها في هذه الرقابة باعتبارها رقابة الحد الأدنى لأسباب القرار الإداري، وتواترت أحكامها على ضرورة مراقبة الوجود المادي للوقائع، ومن ذلك ما قضت به في حكم لها بقولها “إذ أن من المتعين دوماً أن يتوافر للقرار الإداري الحالة الواقعية أو القانونية التي يسوغ تدخل الإدارة لإصدار القرار والقضاء عليه أن يراقب صحة قيام هذه الوقائع، وصحة تكييفها القانوني؛ ولذلك فإنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أنه يجب لصحة القرار أن يقوم على وقائع صحيحة مستفادة من أصول ثابتة في الأوراق، ومؤدية إلى النتيجة التي انتهى إليها القرار وإلا انطوى على مخالفة القانون لانعدام الأساس القانوني الذي يجب أن يقوم عليه ولوقوع الخطأ في تطبيق القانون بسبب الخطأ في فهم الوقائع” ([13]).

ويراقب كذلك القضاء الإداري المصري الوجود المادي للوقائع لإصدار القرار التأديبي فقد قضت محكمة القضاء الإداري المصري …” أن الجزاء الإداري ينبغي أن يقوم على فعل يستوجب المؤاخذة وأن يستفاد من إدانة الموظف في هذا الشأن من أصول ثابتة في الأوراق ومؤدية إلى النتيجة التي انتهى إليها القرار الإداري الصادر بالجزاء، فإذا كانت إدانة المدعي قد انتزعت من أصول لا تتحملها أو من مقدمات لا تؤدي إلى تلك النتيجة فيكون القرار قد فقد اساسة وجاء مخالفاً للقانون” ([14]).

وتؤكد ذلك المحكمة الإدارية العليا في مصر إذ تقول ” بأن سبب القرار التأديبي في نطاق الوظيفة العامة هو إخلال الموظف بواجبات وظيفته أو خروجه على مقتضياتها أو ارتكابه أفعالاً خارجة عن الوظيفة مما ينعكس عليها، فإذا لم يثبت في حقه شيء من ذلك كان القرار الصادر بمجازاته فاقداً لركن من أركانه وهو ركن السبب ووقع مخالفاً للقانون ، ومن حيث أنه إذا كان ما نسب إلى المدعي أثناء تعينه على الوجه السابق بيانه لا يعدُّ إخلالاً منه بالواجبات الوظيفية أو خروجه على مقتضياتها فإن القرار المطعون فيه صادر بمجازاته بالخصم من مرتبه يكون فاقداً لركن السبب الأمر الذي يتعين إلغاؤه” ([15]).

أما في العراق، ساير كل من فرنسا ومصر وفي مختلف الأحوال التي تكون فيها سلطة الإدارة سواء أكانت سلطتها مقيدة أو تقديريه فإن القرار التأديبي يكون مشوباً بعيب السبب وقابلاً للإلغاء إذا تبين أن الإدارة في ما استندت في تبريره إلى وقائع غير صحيحة من الواقعة المادية، وسواء كانت الإدارة حسنة النية في اعتقادها لقيام الوقائع أم كانت تعلم بعدم توافرها، وذلك؛ لأن التحقق من الوقائع يعدُّ ضرورة لا تتطلبها أصول الرقابة القضائية وحدها فحسب؛ وإنما فرضتها اعتبارات المنطق، ويلاحظ أن القضاء في العراق قد اخذ برقابة الوجود المادي للوقائع، أي رقابة السبب الذي استند عليه القرار التأديبي في إصداراه([16]).

ومارس القضاء العراقي رقابته على الوجود المادي للوقائع، وبسط رقابته على قرارات الإدارة في كلتي الحالتين أي في سلطتها المقيدة، عندما ينص أن على الإدارة أن تصدر قراراتها على وفق وقائع معينة أو عندما يمنحها في ذلك سلطة تقديرية أي حرية التصرف، والإختياربناءً على قناعاتُها([17]).

ومن تطبيقات القضاء العراقي في فرض رقابته على سلطة الإدارة المقيدة في مجال التحقق من الوجود المادي منها ما جاء بقرار مجلس الإنضباط العام (محكمة قضاء الموظفينحالياً) رقم 263 / 2002 في 13 / 6 / 2002 حيث قضي ” . . . تبين من الأمر المذكور أن قوام اللجنة التحقيقية كان مكوناً من رئيس وأربعة أعضاء، وحيث أن الفقرة أولاً من المادة (10) من قانون إنضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991 أوجبت بنص أمر الوزير أو رئيس الدائرة تأليف لجنة تحقيق من رئيس وعضوين مما يكون تأليف اللجنة التحقيقية بموجب الأمر المذكور قد حصل خلافا للنص المشار إليه الذي يعدُّ من النظام العام وبالتالي تكون الإجراءات التحقيقية التي قامت بها اللجنة، التي بنت عليها توصياتها في فرض العقوبة بموجب الأمر الإداري المطعون فيه باطلة، وقرر المجلس وبالاتفاق بإلغاء عقوبة العزل المطعون فيها… إلا أن إلغاء العقوبة للسبب المذكور أنفا لا يحول من دون اجراء التحقيق الإداري في الموضوع ثانية من لجنة تحقيق أصولية مع مراعاة نص الفقرة ثالثا من المادة (10) والمادة ( 24) من القانون المذكور” ([18]).

وكذلك قضي في حكم آخر” حيث أن الفصل من العقوبات الإنضباطية المنصوص عليها في المادة (8) من قانون إنضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991، وحيث أن البند سابعاً من المادة المذكورة قد حدد الحالات التي يفصل فيها الموظف من وظيفته وبعد إجراء التحقيق من لجنة مختصة، وحيث أن وكيلا المدعي عليهما قد أوضحا بأن المدعية لم ترتكب مخالفة توجب تطبيق أحكام القانون المذكور وإنما غابت عن وظيفتها مدة تزيد عن المدة المقررة مما تعدُّ مستقيلة عن وظيفتها … وتأسيساً على ما تقدم قرر المجلس بالاتفاق الحكم بإلزام المدعي عليه تعدُّيل الأمر الإداري رقم ( 2017 ) في 4 / 1/ 2006 ويقضي باعتبار المدعية مستقيلة من الوظيفة بدلاً من اعتبارها مفصولة … “([19]).

ويتضح مما سبق عدم تمتع الإدارة بسلطة تقديرية من ناحية تقدير الوقائع من الناحية المادية ، حيث أن القضاء يملك سلطة كاملة في ممارسة الرقابة على الوجود المادي للوقائع، ويتمثل دوره في هذه المرحله بالتحقق من وجود أو عدم وجود الواقعة، المبرره لاتخاذ القرار التأديبي من الناحية المادية.

وفي مجال السلطة التقديرية للإدارة نجد أن القضاء فرض رقابته على الوجود المادي للوقائع، مهما كانت ما تتمتع به من حرية، فإن عملية التحقق والتثبت من الوجود المادي للوقائع تندرج في إطار الرقابة القضائية ، ويؤدي انعدام الوقائع التي بني عليها القرار التأديبي إلى عدم مشروعيته وجعله عرضة للإلغاء القضائي([20]).

ومن خلال مراقبة أحكام القضاء العراقي المتمثلة في قرارات مجلس الإنضباط العام (محكمة قضاء الموظفين حالياً)، والهيئة العامة لمجلس شورى الدولة بصفتها التميزية، نجد أن القضاء العراقي يؤكد من خلال أحكامه بأن السلطة التقديرية للإدارة ليست مطلقة، ويفرض عليها رقابة صارمة وخاصة في مجال تأديب الموظفين ومنها ما قضت به الهيئة العامة لمجلس شورى الدولة ” على مجلس الإنضباط أن يتعمق في التحقيق، والإطلاع على الأسباب، والدوافع الحقيقية لنقلها غير المبرر، فإن كان لابد وأن الإدارة ترى نقلها من هذا المصرف لتحقيق المصلحة العامة كما تدعي، فإن المصلحة العامة تقضي أن تنتقل هذه الموظفة التي مارست العمل المصرفي إلى عمل مصرفي آخر وليس إلى دائرة التقاعد ذلك؛ لأن السلطة التقديرية للإدارة ليست مطلقة وإنما تخضع لرقابة القضاء لتفحص قراراتها والتأكد من خلوها من التعسف من استعمال السلطة . . .”([21]).

ويتضح مما تقدم، أن كل من القضاء الفرنسي، والمصري، والعراقي بسط رقابته على الوجود المادي للوقائع في الحد الأدنى، والتأكد، والبحث من تحقق أو عدم تحقق الحالة المادية وإذا استند القرار التأديبي أو شكله على حالة مادية غير صحيحة اعتبر القرار باطلاً وقابلاً للإلغاء استناداً إلى الخطأ في فهم القانون يؤدي إلى الخطأ في تطبيق القانون .

المطلب الثاني

 رقابة صحة التكييف القانوني للوقائع

تقوم رقابة التكييف القانوني للوقائع إلى مراقبة الإدارة، وتكييفها للوقائع في كل حالة، وهل توافرت لها فعلاً صفة الخطأ الوظيفي الذي يبرر توقيع الجزاء التأديبي أم أن الإدارة قد أخطأت في إسباغ الوصف القانوني السليم للواقعة([22]).

ويعرف التكييف بأنه إدراج حالة واقعية معينة داخل إطار فكره قانونية بحيث يتم التطابق من خلاله بين المخالفة والعقوبة، أو بتعريف مبسط بأنه إنزال حكم القانون على الواقعة([23]) ويتمثل التكييف في معناه الفني بأنه إجراء مقابلة بين الحالة المادية ونصوص القانون، ففي مجالي التأديب بعد أن يتبين القاضي الإداري من أرتكاب الواقعة في المسألة التأديبية يتجه بحثه لفحص ما إذا كانت الواقعة تشكل ذنباً إدارياً يستوجب ايقاع العقوبة التأديبية أم إنها على العكس لا تعدُّ أعمالاً صحيحة لا عقاب عليها، ويقوم بإلغاء القرار التأديبي المستند إليها في إصداره، ويستند القاضي وهو بصدد الفحص القانوني للوقائع إلى أحد الطريقين الأول: تناول الواقعة بالتكييف لمعرفة مدى تطابقها مع القانون، والثانية: تفسير القانون لمعرفة مدى انطباقه على الواقعة، وإذا تيقن لدى القاضي عدم صحة التكييف في الحالة الأولى أو عدم انطباق القانون في الحالة الثانية على الواقعة يكون القرار معيباً بعيب السبب الذي يؤدي إلى إلغائه([24]).

 

وعملية التكييف تتطلب من القائم بها أن يسعى أولاً للتوصل إلى تخصيص قاعدة القانون التي تتسم بالعمومية والتجريد؛ وذلك بإعطائها معنى أكثر تحديداً وأقل عمومية، وبعد ذلك يتجه إلى رفع الواقعة الفردية إلى مستوى عمومية النص القانوني، وإخراج صفات الوقائع التي تميزها من الناحية القانونية، وإهمال الجوانب الإخرى عديمة الجدوى حتى يتحقق التطابق بين النص والوقائع، ويمكن توصيف التكييف القانوني للوقائع، بإنها عملية ذهنية تنتقل بقاعدة القانون من حالة السكون – أي العمومية  والتجريد –  إلى حالة الحركة أي الخصوصية والتجسيد؛ وذلك عن طريق تطبيق حكم القانون على الوقائع([25]).

ومن أمثلة ذلك ما نجده في الركن الشرعي للجريمة التأديبية، فهي جاءت بصيغة عامة مفادها أن أي إخلال بواجبات الوظيفة يعدُّ جريمة تأديبية مع وضع القانون تعداد بأهم الواجبات والمحظورات التي يتعين على الموظف الالتزام بها في أداء عمله، إذتعدُّ هذه الصيغة والتعداد بمثابة توجيه عام لفكرة الجريمة التأديبية في قاعدة القانون، وإذا ما وقع من الموظف فعلاً ما وعدته الجهة المختصة على أنه إخلال بالواجبات الوظيفية أو الخروج على مقتضياتها، فحينئذ يقع على السلطة التأديبية واجب تكييف هذا الفعل من الناحية القانونية للتأكد مما إذا كان يشكل جريمة تأديبية في نظر القانون على وفق التوجيه العام الذي وضعه القانون أم إنه مجرد واقعة عادية تنتفي عنه وصف الجريمة التأديبية، وبعد ذلك يخضع التكييف لرقابة القضاء الإداري على عنصر السبب في القرار الإداري للتحقق من مدى سلامة الوصف القانوني الذي أيـدته السلطة التأديبية([26]).

ويراقب القضاء الإداري في مجال تأديب الموظف بعد التحقق من الوجود المادي للوقائع بوصفها سبب لإصدار القرار التأديبي تكييف السلطة التأديبية لهذه الوقائع، والوصف القانوني لها، وإذا اتضح لها أن الجهة التأديبية أخطأت في إسباغ الوصف القانوني للواقعة المنسوبة للموظف المتهم فإنه يحكم بإلغاء القرار التأديبي لوجود عيب في ركن السبب([27]).

ودعم القضاء الإداري الفرنسي أسس هذه الرقابة، فبدأ مجلس الدولة الفرنسي رقابته على صحة التكييف القانوني للوقائع في كل حالة تخضع فيها سلطة الإدارة في اتخاذ قرار معين بتوافر شروط واقعة معينة نص عليها القانون أي في حالة السلطة المقيدة للإدارة، وتوسع بعد ذلك مجلس الدولة الفرنسي عندما بسط رقابته بعد ذلك على التكييف القانوني للوقائع في الحالات التي تكون فيها سلطة الإدارة غير مقيدة أي في حالة السلطة التقديرية، وهو ما يعني الرقابة على تقدير السلطة التأديبية لمدى توافر الوصف القانوني للوقائع التي استندت إليها الإدارة في إصدار القرار التأديبي ويعدُّ حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية (Camino) المثال والنموذج لاستقرار قضائه اللاحق.

وجاءت في حيثيات الحكم ” . . . حيث أن مجلس الدولة لا يستطيع أن يبت في تقدير ملائمة الإجراءات المطعون فيها أمامه عن طريق دعوى تجاوز السلطة إلا أنه يملك البحث في ماديات الوقائع التي تثبت هذا الإجراء من ناحية كما أنه يملك من ناحية أُخرى إذا ما تحقق من وجود الوقائع ، أن يبت في ماإذا كانت هذه الوقائع تبرر قانوناً الجزاءات المتخذة”([28]).

وقد طبق القضاء المصري ذلك النوع من الرقابة، إذ بسط رقابته على التكييف القانوني للوقائع للتأكد من مدى انطباق الوصف القانوني الذي اضفته السلطة التأديبية على تلك الوقائع، وامتدت هذه الرقابة إلى العديد من المجالات وخاصة مجال الوظيفة العامة، وأوضحت المحكمة الإدارية العليا موقفها من الرقابة على التكييف القانوني للوقائع الذي اضفته الإدارة على الواقعة التي كانت أساساً لقرارها التأديبي،إذ ذهب في هذا الشأن إلى القول: ” لا جدال . . . في امتداد الرقابة القضائية لما استندت إليه الجهة التأديبية من أسباب سواء في مجال قيامها بأن تستمد من أصول تستنتجها مادياً أو قانونياً أو بالنسبة لتكييفها بفرض وجودها، وكونها تؤدي إلى النتيجة التي خلصت إليها “([29]).

استقر القضاء الإداري المصري ايضاً على أن ” الجزاء التأديبي كأي قرار يقوم على سبب يبرره، وهو الجريمة التأديبية التي تبرر تدخل السلطة الإدارية، وإيقاع الجزاء التأديبي على مرتكبيها، فإذا ما نشأ نزاع حول ذلك فإن للقضاء التحقق من صحة قيام تلك الافعال، وفي هذا الصدد قضت محكمة القضاء الإداري في مصر أن الاستناد في تبرير الإدارة لرأيها في فصل المدعي إلى كثرة تغيبه في اجازات أمر لا يدل على أهمال أو إخلال بواجبات وظيفتة مادام أنه كان يجاب على طلبه لإجازاته بعد أن يبدي الأعذار المبررة لطلبه” ([30]).

وقضت المحكمة الإدارية العليا المصرية بأن ” قيام العامل بإحدى النوادي الليلية بمزاولة الغناء ليلاً مقابل أجر لا يمس كرامة الوظيفة التي يشغلها ولا يحط من قدرها بثبوت عدم علمه باذن بذلك من السلطة المختصة . . . حيث يمكن مجازاته في هذه الحالة الجزاء المناسب عن واقعة تأدية أعمال للغير من دون الحصول على اذن السلطة المختصة فقط”([31]).

وفي ذلك بسط القضاء العراقي رقابته على التكييف القانوني للوقائع إلى جانب قيامه بالتحقق من الوجود المادي للوقائع لتلك الوقائع المنسوب أرتكابها للموظف المتهم للتأكد من إنها تمثل إخلالاً بواجبات الوظيفة العامة، ومدى توافر صفة الخطأ التأديبي الذي يبرر توقيع الجزاء وما إذا كانت السلطة التأديبية أخطأت في إعطاء الوصف القانوني الصحيح([32]).

             ومن تطبيقات مجلس الإنضباط العام (محكمة قضاء الموظفين حالياً) في هذا المجال ما قضى بقوله ” ان واقعة إزاحة الأتربة المختلطة بالبذور من موقع العمل والإتاحة للموظفين الاستفادة منها من التقديرات الإدارية الخاضعة للاجتهاد الشخصي . . .، وإن اتساع المجال للعاملين في الشركة بنقل الأوساخ،  والتقاط ما تساقط من بذور فيها للاستفادة منها وهو ما يجري العرف التسامح فيه ولا ينطوي على إخلال وظيفي كبير لذا قرر المجلس إلغاء عقوبة العزل “([33]).

واعتبر مجلس الإنضباط العام في حكم آخر له بهذا الصدد ” أن صياح الطبيب في ممر المستشفى لحث الممرضين على الاسراع لايشكل إخلالاً بواجبات الوظيفة يستوجب معاقبتة ، لذلك قضى المجلس إلغاء عقوبة التوبيخ المفروضة بحقه “([34]).

ونستنتج مما سبق أن رقابة القضاء على صحة التكييف القانوني للوقائع ورقابته أيضاً على الوجود المادي للوقائع ما هو إلا ضمانه هامة لمبدأ المشروعية وحفاظاً على الحقوق الوظيفية من شطط ومغالاة الإدارة عند تقدير العقوبة للخطأ أو الذنب الإداري، واستقرار المراكز القانونية وأداء العمل بإخلاص داخل المجتمع الوظيفي طالما شعر الموظف بنوع من الأمان والحفاظ على حقوقه ومكتسباته الوظيفية في مواجهة الإدارة إذا ما تعسفت في استعمال ذلك الحق .

ومد القضاء رقابته للتحقق من سبب القرار الإداري ومطابقته للوقائع؛ وبذلك سيغلق الباب أمام الإدارة ويجعلها تفكر مسبقاً بأن أعمالها أو سلطتها ليست مطلقة بل تخضع لرقابة القضاء وهو ما يعزز لنا نتيجة هامة تتعلق بملائمة العقوبة الواقعة من قبل الإدارة؛ ومناسبتها للذنب الإداري المرتكب، إضافة إلى قيامها بدراسة الحالة المرتكبة دراسة دقيقة مبنية على فحص وتأني، وتأمل، ودراية في اضفاء الوصف على الواقعة المنسوبة للموظف، وقدر تعلقها بالسبب فكلا النوعان من الرقابة تمثل ضمانة أساسية للموظف، والعامل في مجال التأديب، ويكمل احدهما الآخر من حيث المراحل المتسلسلة لها في سلم الرقابة؛ ولذلك سيجلب فهم القانون إلى التطبيق الصحيح للقانون وليس العكس .

وإن نهج القضاء نهج يحمد له على مد رقابته على الوجود المادي للوقائع وصحة التكييف القانوني في كل من القضاء الفرنسي، والمصري، والعراقي، ونلاحظ أن القضاء المصري أفاض، وتوسع، وألم بكل أبعاد هذه الأنواع من الرقابة من خلال استقرار أحكام محكمة القضاء الإداري والمحكمة الإدارية العليا التي أشارت إلى رقابة الوجود المادي للوقائع، والتكييف القانوني الصحيح للوقائع في مختلف أنواع الوقائع، والأحكام التي جاءت دقيقة لمعالجة كل حالة مختلفة عن الآخرى في وصفها، وأسبابها، والقاعدة القانونية المسنده إليها، وتطبيق المحكمة الإدارية العليا لهذا النوع من الرقابة يدل على مدى التزام، واحترام، وتطبيق القضاء لمبدأ المشروعية للحفاظ، وللحماية، وللموازنة بين الحقوق من جوانبها المختلفة.

([1]) د. أحمد يسري، أحكام المبادئ العامة في القضاء الإداري الفرنسي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1991، ص 61.

([2]) د. محمد ماهر أبو العينين، الإنحراف التشريعي والرقابة على دستوريته، دار النهضة العربية، القاهرة، 1987، ص 56.

([3])stassino  poulositrait des actes administrative، 1954، p175.

([4]) السيد محمدإبراهيم، الرقابة على الوقائع وقضاء الإلغاء، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، 1962، ص 513.

([5]) المستشار عبد الوهاب البدراوي، طرق الطعن في العقوبات التأديبية إدارياً وقضائياً، دار الفكر العربي، من دون سنة طبع، ص 54.

([6])c.debbashch, cricci,Lecontentieux administrative، 7eme edition، dalloz، 1999، p، 627.

([7]) السيد محمد إبراهيم، الرقابة على الوقائع وقضاء الإلغاء، المرجع السابق، ص 520.

([8]) السيد محمد إبراهيم، المرجع السابق، ص521.

([9]) عبد الله محمد عبد الرحيم سعد، الرقابة القضائية على السلطة التقديرية في مجال التأديب، دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، 2012، ص 96.

([10]) القضية 38 لسنة 1 قضائية جلسة 17 / 1 / 1997، مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها محكمة القضاء الإداري، السنة الثانية، ص 222، أشار إليه، عبد الله محمد عبد الرحيم سعد،المرجع السابق، ص 97.

([11]) طعن إداري رقم 1335لسنة 8 ق جلسة 32 / 1/ 1965، مجموعة المبادئ التي قررتها المحكمة الإدارية العليا، السنة العاشرة، ص 349، أشار إليه، عبد الله محمد عبد الرحيم سعد، المرجع السابق، ص 98.

([12]) د. محمد حسنين عبد العال، فكرة السبب في القرار الإداري، من دون دار نشر وسنة طبع، ص 54.

([13]) طعن إداري رقم 5328 لسنة 45 ق، جلسة 14 / 2 / 2002 الدائرة الخامسة، مجموعة القوانين والمبادئ القانونية، مجموعة أحكام المحكمة الإدارية العليا، 2002، 2004، الجزء الأول، سنة، 2005، أشار إليه، عبد الله محمد عبد الرحيم، المرجع السابق، ص، 105.

([14]) القضية رقم 664 لسنة 6 ق جلسة 18 / 3 / 1954، مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها محكمة القضاء الإداري، السنة السابعة، ص 108،أشار إليه، عبد الله محمد عبد الرحيم سعد، المرجع السابق، ص 99.

([15]) طعن إداري رقم 23 لسنة 13 ق جلسة 28 / 12 / 1958، مجموعة المبادئ التي قررتها المحكمة الإدارية العليا، السنة الرابعة عشر، ص 165،أشار إليه، عبدالله محمد عبد الرحيم، المرجع السابق، ص 100.

([16]) أحمد ماهر صالح علاوي، الرقابة القضائية على إجراءات فرض العقوبة الإنضباطية في القانون العراقي، دراسة مقارنة، رسالة ماجستير،  كلية القانون، جامعة بغداد، 2006، ص 74.

([17]) على حسن أحمد الفهداوي، الاتجاهات الحديثة في الرقابة القضائية على السلطة التقديرية للإدارة، أطروحة دكتوراه، كلية القانون، جامعة بغداد، 2000، ص 23 .

([18]) قرار مجلس الإنضباط العام رقم 163 / 2002، بتاريخ 17 / 6 / 2002،غير منشور، أشار إليه، علي حسن أحمد الفهداوي، المرجع السابق، ص 34.

([19]) قرار مجلس الإنضباط العام رقم 238 / 2006، بتاريخ 9 / 11/ 2006، قرارات وفتاوي مجلس شورى الدولة لعام 2006، وزارة العدل، ص 340 – 341، أشار إليه، علي حسن أحمد الفهداوي، المرجع السابق، ص 36.

([20]) د. وهب عبد سلامة، مبادئ القضاء الإداريودعوى الإلغاء ودعوى التعويض، من دون دار نشر، 1997، ص 143.

([21]) قرار الهيئة العامة لمجلس شورى الدولة بصفتها التميزية رقم 24 / 6 / 2006 بتاريخ 6 / 2 / 2006 غير منشور، أشار إليه، على حسن أحمد الفهداوي، المرجع السابق، ص 38.

([22]) د. ماهر عبد الهادي، الشرعية الاجرائية في التأديب، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986، ص 73.

([23]) تتم عملية التكييف القانوني للوقائع بإخضاع واقعة معينة أو حالة خاصة لقاعدة القانون المراد تطبيقها وذلك عن طريق نقل هذه القاعدة من وضع العمومية والتجريد التي هي عليها إلى وضع الخصوصية والتجسيد للواقعة محل التكييف، لمزيد من التفاصيل: يراجع في ذلك، د. خليفة سالم الجهمي، الرقابة القضائية على التناسب بين العقوبة والجريمة في مجال التأديب، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة حلوان، من دون ذكر سنة، ص 315.

([24]) د. محمود سلامة بدر، الرقابة على تكيف الوقائع في قضاء الإلغاء، مجلة إدارة قضايا الحكومة، السنة الثامنة والعشرون، العدد الرابع، 1984، ص163.

([25]) د. محمود عاطف البنا، القضاء الإداري، دارسة مقارنة، الطبعة الرابعة، دار النهضة العربية، القاهرة، من دون سنة طبع، ص 25.

([26]) د. عصام عبد الوهاب البرزنجي، السلطة التقديرية للإدارة والرقابة القضائية عليها، دار النهضة العربية، القاهرة،1971، ص 137.

([27]) د. طعيمة الجرف، القضاء الإداري مصدر انشائي للقانون الإداري، مجلة إدارة قضايا الحكومة، اكتوبر، السنة السادسة، العدد الرابع، 1962، ص 23، وأيضاً د. محمد سعيد حسين أمين، ود. عمر حلمي فهمي، القانون الإداري، مطبعة جامعة عين شمس، من دون سنة طبع، ص 270.

([28]) د. علي سمير صفوت، مجلس الدولة قاضي الوقائع، السنة الخامسة، يناير، 1954، ص 352.

([29]) طعن إداري رقم 997 لسنة 25 ق جلسة 12 / 12 / 1981، مجموعة أحكام المحكمة الإدارية العليا، السنة السابعة والعشرون، ص 94، أشار إليه، عبد الله محمد عبد الرحيم سعد، الرقابة القضائية على السلطة التقديرية في مجال التأديب، المرجع السابق، ص 18 .

([30]) القضية رقم 577 السنة 5 ق جلسة 5 / 8/ 1952 مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها محكمة القضاء الإداري، السنة السادسة، ص 918، أشار إليه، عبدالله محمد عبد الرحيم سعد، المرجع السابق، ص 109.

([31]) طعن إداري رقم 877 جلسة 22 / 6 / 1963 مجموعة أحكام المحكمة الإدارية العليا، السنة الثامنة والعشرون، ص 873، وأيضاً، طعن اداري رقم 734 لسنة 2 ق جلسة 5 / 1 / 1958 مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا، السنة الثامنة، ص 35، أشار إليه، عبد الله محمد عبد الرحيم سعد، المرجع السابق، ص 110.

([32]) سعديه عزيز دفار الزيدي، الرقابة القضائية على تكييف الوقائع في مجال تأديب الموظفين، دراسة مقارنة، رسالة ماجستير، كلية الحقوق، الجامعة المستنصرية، 2010 ص 108.

([33]) قرار مجلس الإنضباط العام، رقم القرار 160/ 1996، تاريخ القرار 24 / 2 / 1996 غير منشور، أشار إليه، سعديه عزيز دفار، المرجع السابق، ص 108.

([34]) قرار مجلس الإنضباط العام، رقم 79 / 1997، تاريخ القرار 18 / 6/ 1997، أشار اليه، سعديه عزيز دفار، المرجع السابق، ص 109.

زر الذهاب إلى الأعلى