الفكر السياسي

العدالة الاجتماعية مطلب شعبي ودولي

العدالة الاجتماعية مطلب شعبي ودولي

عماد محمد جواد

2021 / 6 / 20

حظي مفهوم العدالة الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة بقدر كبير من الأهمية على صعد مختلفة :الأكاديمي ،السياسي والإعلامي، كما استحوذ على حيز كبير من الجدل على مستوى الفكر الاقتصادي ، حتى أضحي من المفاهيم شائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة وفي الخطابات المعاصرة وتقارير المؤسسات والمنظمات الدولية والوطنية . وتبعا لذلك وبغض النظر عن تنوع المرجعيات و اختلاف المقاربات، فقد أصبح الحديث عن العدالة الاجتماعية يكتسب حيوية متزايدة نظرا لحيوية الموضوع تحديدا باعتباره مطلبا شعبيا ودوليا في آن واحد في واقعنا المعاصر.
وقد غدا هذا الاهتمام واضحا من خلال عقد المؤتمرات والندوات وإبرام الاتفاقيات على المستوين الإقليمي والدولي. وكانعكاس لتعاظم الاهتمام دوليا بموضوع العدالة الاجتماعية، تم اعتبار يوم ۲۰ شباط/فبراير من كل عام، يوما عالميا للعدالة الاجتماعية، وذلك بالنظر للأهمية المحورية التي أصبح يحظى بها مطلب ومسالة العدالة الاجتماعية في عمل واستراتيجيات مختلف دول العالم والمنظمات الدولية . ولهذا مثلا على مستوى العالم العربي، وليس وحده طبعا، لا غرابة ، في أن يتصدر مطلب العدالة الاجتماعية قائمة مطالب وشعارات الحركات الاحتجاجية الجماهيرية، التي خرجت في مجموعة من البلدان العربية في سياق ما سمي في حينه ب “الربيع العربي “.
ضبط المفهوم :
على الرغم من الاهتمام المتزايد بهذا المفهوم؛ لابد إن نسجل هنا ومنعا لأي التباس کونه لازال مفهوما متشعبا ومتعدد الأبعاد وهو الأمر الذي جعل البعض يسميه ب “المفهوم المطاطي”. فقد طرحت تعاريف كثيرة لمفهوم العدالة الاجتماعية، لكن ما يميزها هو إن هذه التعريفات تبقي مستندة على المرجعية الفكرية والإيديولوجية والعلمية التي ينطبق من خلالها المفكر أو الباحث أو الحركة السياسية .
ومن جهة أخرى ، ثمة ضرورة للإشارة إلى أن فكرة العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن فكر حقوق الإنسان فالعدالة الاجتماعية حسب الكثير من المفكرين والباحثين في العلوم الاجتماعية والسياسية ، استحقاق أساسي للإنسان نابع من جدارته كانسان بالتمتع بمجموعة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهي حقوق أساسية من حقوق الإنسان وجزء لا يتجزأ منها ، وهذا ما أكد عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومجموعة من المواثيق والاتفاقات الدولية كالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاتفاقات الخاصة بحقوق الطفل والنساء والأقليات.
وللعدالة الاجتماعية مظاهر ومرتكزات عدة , باعتبارها مرجعية معيارية للقيم الانسانية , فهي من جهة عدالة مبدأ تكافؤ الفرص وعدالة في توزيع الناتج المحلي الاجمالي وهي عدالة في تحمل الأعباء العامة وتحديدا المجال الضريبي , وهي عدالة المساواة في الاستفادة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الممنوحة داخل المجتمع .
ويمكن اجمال عناصر العدالة الاجتماعية وابعادها فيما يأتي :-
الأول۔ البعد أو العنصر الاقتصادي : المتعلق بمدى اشتراك مواطني الدولة ككل في العملية الإنتاجية والتنموية وفي الاستفادة من مخرجاتها . وهو الأمر الذي يؤدي إلى المساواة في الفرص المجتمعية المتاحة والحقوق الاقتصادية في مجال العمل وملكية وسائل الإنتاج والحصول على الخدمات والمعلومات دون تمييز.
الثاني البعد الاجتماعي: والمتعلق بإشكاليات الفقر والإقصاء والاستبعاد الاجتماعية، وما يستدعيه
الأمر من سياسات عمومية لتمكين الطبقات الفقيرة من تحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية
الثالث – البعد البشري: ينصب على مسألة الالتزام بحقوق الإنسان وحاجاته الأساسية، ومسالة تكافؤ
الفرص أمام جميع أفراد المجتمع.
الرابع البعد المتعلق بالتقسيم الطبقي للمجتمع :ويستهدف إبراز العلاقة الوثيقة بين النظام الاقتصادي و
الاجتماعي السائد وبين العدالة الاجتماعية، و يطرح هنا قضية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي تفرز في ضوئها طبقات المجتمع، كما أن غياب أو تأثر هذه العدالة يعني وجود تفاوت طبقي وهوة بين الأغنياء والفقراء.
الخامس البعد الجهوي : والمتعلق بالتفاوتات المجالية داخل تراب الدولة، في توزيع الموارد المالية
السادس- البعد السياسي و المؤسسي: يرتبط بمسائل من قبيل الحريات والحقوق السياسية والمشاركة
السياسية من خلال مؤسسات وطنية تساهم في صنع القرارات العامة الوطنية .
السابع- البعد المتصل بالعدالة بين الأجيال: أي العدالة بين الأجيال الحاضرة والأجيال المقبلة ليس فقط
في توزيع الموارد الطبيعية والصناعية وما إلى ذلك، ولكن أيضا في تحمل أعباء الدين العام.
الثامن: البعد المتعلق بالعلاقات الخارجية للدولة: وهو بعد يتعلق بنوعية العلاقات التي تنشأ بين الدولة
والدول الأخرى في إطار النسق الدولي، وهدى تكافؤها أو ميلها لدولة على حساب دولة أخرى ، فتحقيق العدالة الاجتماعية الذي يقتضي التحرر من الاستغلال في الداخل، فانه يقتضي كذلك التحرر من الاستغلال من الخارج أي التبعية بمختلف تمظهراتها السياسية والاقتصادية.
ومنعا لأي التباس وجب التذكير بأن مبادئ وأبعاد العدالة الاجتماعية حسب العديد من المهتمين بالموضوع هي ليست بالمبادئ الواضحة التي تلقي القبول العام، ذلك إن ما يعتبره البعض حقوقا لا يراه البعض الأخر كذلك. فالعدالة الاجتماعية إذن لا تقوم على مبادئ عامة مجردة يمكن إسقاطها على ممارسات ومواقف محددة في كل المجتمعات.
وعلى ضوء ذلك فان ، العدالة الاجتماعية تبقي عملية نسبية ومفهوما مبهما متعدد الإبعاد ،إي أنها لا تعني المساواة الكاملة أو المطلقة، فهي خاضعة لمسألة “التفاضل” الاجتماعي والفقرات في قدرات ومؤهلات و قابلیات الأفراد داخل المجتمع الواحد، لكنها لا تعني في الوقت نفسه التفاوت بين الأفراد الذي تتدخل فيه مجموعة من الاعتبارات ک :الأصول الاجتماعية” أو “الأصول العرقية” أو الفروقات بين الجنسين”، طبقية كانت أم متعلقة بهرم الدولة .
وخلاصة القول انه ورغم التنوع الكبير في مفهوم العدالة الاجتماعية والتعريفات التي لا تحصى للعدالة الاجتماعية . يجمع عدد كبير من البحوث الاكاديمية والمؤلفات العلمية على عدد من العناصر الواجب توافرها لتحقيق العدالة الاجتماعية , ابرزها : –
• المساواة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص .
• التوزيع العادل للموارد والأعباء ( العدالة التوزيعية ).
• الضمان الاجتماعي ( الحماية الاجتماعية ).
• توفير السلع العامة .
• العدالة بين الأجيال .
العلاقة بين العدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية :
قد يثار تساؤل حول العلاقة بين العدالة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية . ويرى العديد من الباحثين المتخصصين في الموضوع , وهم على حق , ان العدالة الاقتصادية هي جزء من العدالة الاجتماعية حيث ان العدالة الاقتصادية تدور حول ذلك الجانب المتعلق بالإنتاج من حيث مدخلاته ومخرجاته ومن حيث حق مشاركة افراد المجتمع في هذين الجانبين من العملية الانتاجية . وقد اقترح بعض الباحثين المختصين بهذه الاشكاليات عدة مبادئ للعدالة الاقتصادية من بينها :-
1) المبدأ الأول وهو مبدأ المشاركة ( المدخلات ) , ومضمونه ان العدالة الاقتصادية تقتضي ان تتاح فرصة متساوية للشخص مع غيره للمساهمة في العملية الانتاجية سواء بعمله او برأسماله.
2) المبدأ الثاني هو مبدأ التوزيع ( المخرجات ), ويقضي بالتوزيع حسب المساهمة في العملية الانتاجية .
3) المبدأ الثالث هو مبدأ التصحيح , ويطلق عليه ايضا مبدأ التغذية العكسية والذي يحدد التشوهات التي يمكن ان تحصل في المبدأين الأول والثاني ( المدخلات والمخرجات ) , ويبين التعديلات اللازمة لاستعادة نظام اقتصادي متوازن وعادل للجميع .
لقد دعت الماركسية الى العدالة الاجتماعية اذ رأت ان الصراع الطبقي الناجم عن طبيعة علاقات الانتاج وشكل الملكية السائد الاستغلالي كان وراء انعدام تحقيق العدالة الاجتماعية بين طبقات وفئات وشرائح المجتمع المختلفة نتيجة المواقع التي تحتلها في البنية الاجتماعية . ويرى ماركس في المخطوطات السياسية والاقتصادية لعام 1844 ام (( المنافسة عامل حاسم من عوامل بناء تركيبة المجتمع الاقتصادية والسياسية , وان الصراع الطبقي نتيجة حتمية لانعدام العدالة الاجتماعية , لأن سبب انعدام العدالة يعود الى ان تراكم الثروة عند افراد الطبقة الرأسمالية هو الذي اسهم في تصميم شكل القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يسيطر بها هؤلاء على مصير الطبقات الاجتماعية . ولا شك في ان صراع الطبقات هو المفتاح الرئيسي للتغيير الاجتماعي …, فتختفي – حينئذ – كل معالم الظلم الاجتماعي والاغتراب والصراع والاضطهاد الانساني )).
العدالة الاجتماعية في اقتصاد ريعي – العراق نموذجا :
لا يخلو أي بلد عربي وهي في معظمها بلدان ذات طبيعة ريعية , من برامج لإقامة قدر او آخر من العدالة الاجتماعية مثل نظم التأمينات والمعاشات التقاعدية او الحماية الاجتماعية من خلال الدعم العيني او النقدي , او اتاحة السلع والخدمات العامة مثل التعليم الذي يلزم البلدان العربية بإتاحته مجانا والزاميا في مرحلة التعليم الاساسي او الرعاية الصحية والعلاج المجاني لغير القادرين , او السعي لتوفير فرص العمل او توفير برامج للإسكان الاقتصادي لمحدودي الدخل في هذا البلد او ذاك . كما توفر بعض البلدان العربية النفطية انماطا من الرفاه الاجتماعي لمواطنيها قد يفوق ما يوفره العديد من الدول المتطورة في تلبية السلع والخدمات العامة , اذ يمد بعض هذه البلدان مجانية التعليم الى كل مراحل التعليم بل ويقدم بعضها اعانات مالية للدارسين ويوفر معظمها نسبا جيدة للرعاية الصحية في الموازنات المالية للدولة . ويلتزم بعضها بتوفير المسكن الملائم ويوفر معظمها برامج لدعم ذوي الاعاقات كما خصصت بعضها صناديق للأجيال القادمة . لكن خلف هذه ( الصورة الزاهية ) يكمن العديد من الإجحافات الاجتماعية والتفاوتات والاستقطابات الطبقية في واقع بلدان العالم العربي , تستوي في ذلك البلدان الفقيرة والغنية . ولم يكن مصادفة ان يكون احد اسباب الحراك الاجتماعي الذي تشهده المنطقة منذ اندلاع ثورة تونس في ديسمبر / كانون الاول 2010 هو غياب العدالة الاجتماعية وان يكون ايضا اهم مطالب الحراك الاجتماعي .
فمبدأ المساواة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص والتي تمثل حجر الاساس في العدالة الاجتماعية غائبة في البلدان العربية كما تبرز ايضا اشكال التمييز ضد المرأة التي تشكل نصف المجتمع واكثر حيث ما زلنا نشهد انماطا متعددة من التمييز ضد المرأة بدءا من النطاق العام بالمشاركة في الحياة العامة ومركز صنع القرار الى المشاركة في النشاط الاقتصادي .كما يمتد التمييز في البلاد العربية ومنها بلادنا الى نمط التمييز على اساس الدين والمذهب والمعتقد مسببة نزعات من الاحتقان الاجتماعي .
وبقدر تعلق الامر بالجربة العراقية فان معيار مدنية الدولة وديمقراطيتها لن يتحقق الا في ظل علاقات تتجاوز الاستقطاب والتهميش الاجتماعيين والضامنة للحقوق والضمانات الاجتماعية الاساسية وهذه لن تتحقق الا عبر تغييرات في بنية الدولة الراهنة الطائفية – الاثنية وطابع اقتصادها . ولهذا يمكن القول ان البدء بعملية الانتقال من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج هو المدخل الرئيسي الى تأسيس حياة ديمقراطية بكل معنى الكلمة تتطلب مواجهة قوى الضغط الداخلية والخارجية .
ونتيجة للبنية المتخلفة والاحادية الجانب والريعية التي يتسم بها الاقتصاد العراقي فان مجتمعنا العراقي يعاني من تفاوت اقتصادي وتنموي ومن الاخفاق في تحقيق التنمية القائمة على العدالة الاجتماعية. ان التغيير الجذري في العراق لن يتحقق الا عبر تأسيس نظام عابر للطوائف وبناء دولة مدنية ديمقراطية اتحادية عصرية تقوم على العدالة الاجتماعية. وان أي طريق آخر لن يفضي سوى الى اعادة انتاج الازمة واعادة انتاج النظام المحاصصي الطائفي الأثني بل وتأجيل تفكيكه الى حين .. *

* عن الحوار المتمدن…


زر الذهاب إلى الأعلى