تأملات / وماعلموا أن صوتك حفّار قبرهم !
تأملات / وماعلموا أن صوتك حفّار قبرهم !
رضا الظاهر
2011 / 9 / 12
مواضيع وابحاث سياسية
… إذن فقد حاول المذعورون من تابوت الشهيد هادي المهدي الرمزي إعاقة وصوله الى “التحرير”، حيث كانت روحه ترفرف فوق رؤوس المحتجين، وهي ترشدهم الى تلك الضفاف .. لكن المهدي وصل الى كل ساحات التحرير والى كل تلك الضفاف، على الرغم من ذعر وعسف ومتاريس أجهزة الحاكمين …
نفذ “المجهولون” جريمتهم التي هزت الضمائر الحية .. حاولوا، مرتعبين، إسكات صوته بكاتم ليفضحوا سلوكهم الجبان الذي ينذر بعواقب خطيرة قال سياسيون وإعلاميون وحقوقيون ومثقفون وناشطون إن جهات وأجهزة تمهد لها. ومن هنا وجهوا أصابع اتهام الى من ناصبوا المهدي العداء وحاولوا ترهيبه بالوعيد والتهديد.
ليس لنا أن نستبق الحقائق حتى وإن كان بعضها ساطعاً. سننتظر، بالطبع، ذلك اليقين الدامغ، ولكن ليس، في أغلب الظن، من لجان “التحقيق” التي خبرها الناس وعرفوا حقيقة كونها أداة بيد الحكام المتنفذين للتضليل وطمس الحقائق، مادامت تبدأ أولاً، وعلى الدوام، بتسجيل الجريمة ضد مجهول، في سيناريو يتكرر مع مصرع كل “خصم” ولا يندر فيه أن يشوه المعنيون، عن قصد، حتى سمعة القتيل الشخصية، كما كان يفعل “جهاز حنين” والمكاتب السرية في عهد الدكتاتورية الفاشية، مع فارق وحيد أن الخاكي تبدل الى زي آخر !
وبينما أوقف المذعورون التابوت الرمزي للفنان القتيل عند “كهرمانة” محاولين منعه من الوصول الى “التحرير” ، كان متظاهرو الساحة قد اضطروا، بعدئذ، الى الانسحاب منها تلافياً لوقوع صدام مع مندسين “فرسان” زجت بهم جهات حكومية وسط المتظاهرين، إذ اقتحموا الساحة على نحو مفاجيء وهم يرددون هتافات طائفية ويمارسون “بلطجة” ضد صحفيين ومحتجين آخرين.
ولم يكن اندساس “الفرسان” هذا سوى واحد من تجليات القمع التي شهدتها ساحات بغداد وسائر المحافظات. فقد اختطف المحامي الشاب سجاد سالم في الكوت بينما كان يسعى الى الحصول على إجازة قانونية للتظاهر، وغُيِّب أياماً في رسالة واضحة لترهيب المتظاهرين، ولم يطلق سراحه إلا اضطراراً بعد “جمعة البقاء” خشية من تصاعد الاحتجاجات على اختطافه. وفي محافظات أخرى طبّق “المعنيون” خطة كسر شوكة المحتجين فمارسوا كل ما هو مفضوح في ترسانة قمعهم السافر.
أما حكومة “الشراكة الوطنية” المترهلة، القائمة على مبدأ الطوائف والقوميات، ففي شغل، بالطبع، بالمحاصصات والامتيازات وتجاهل معاناة الناس وانتهاك حقوقهم، ومن غير المنطقي أن تشغلها قضية مصرع صحفي. أيعقل أن تترك القضايا “الكبرى” ذات الصلة بمصلحة الوطن لتلتفت، مضيّعة وقتها وجهدها، الى قضية “صغرى” !؟
وأما نحن، المفجوعين برحيل المهدي، فنعرف أن الغاية من وراء قتله هي محاولة قتل المشروع الذي شارك في السير اليه وسط كتائب المثقفين الاقتحامية .. مشروع الديمقراطية الحقيقية وإشاعة التنوير وحرية الابداع وحقوق ملايين المحرومين وآمال نساء ورجال البلاد المتطلعين الى غد مضيء.
ونعرف، أيضاً، عقل الحكام الذي يريد إشاعة روح القطيع والخنوع وتأبيد ثقافة الراهن حتى يؤبدوا سبيلهم الى المزيد من المغانم.
ونعرف، أيضاً، أن من الوهم التصديق بأن مسلسل قتل الصحفيين والعلماء وسائر المبدعين والتنويريين سيتوقف على يد حكومة محاصصات لا يمكن إدامة امتيازات المتنفذين فيها اذا ما توقف مسلسل الدمار المادي والروحي.
الجريمة النكراء الجديدة تقرع، مرة أخرى، نواقيس الخطر الذي يواجه الثقافة ومصائر بلاد باتت في مهب الريح ..
أية بلاد هذه التي تسيل دماء خيرة بناتها وأبنائها في الشوارع، وتطحن رحى المآسي ملايين المعذبين فيها .. أية بلاد مازال البعض فيها يراهن على قدرة حكومة محاصصات مشلولة على الخروج من أزمة مستعصية عميقة .. متى ينهض من يعوّل الضمير عليهم نهضة جارفة .. متى يستيقظون من سباتهم ومن الأوهام ؟
أما الهادي المهدي، الذي خبر فاشية الدكتاتورية القديمة فكان يعرف ماذا يعنيه أن لا يصمت أمام من يريدون إحياء دكتاتورية “جديدة” في دولة طوائف.
ورسائل الشهيد، في الأيام الأخيرة خصوصاً، تكشف عن حقائق ساطعة وآمال مقبلات وغايات ساميات، وتضيء دلالات عميقة تنير دروبنا الى تلك الصفاف التي أضاءتها أمثولة المهدي.
فقد كتب عشية اغتياله يقول: “… كفى، أعيش منذ ثلاثة أيام في حالة رعب، فهناك من يتصل ليحذرني من مداهمات واعتقالات للمتظاهرين. سأشارك في المظاهرات. لقد سئمت من مشاهدة أمهاتنا يشحذن في الشوارع، ومللت من تخمة ونهب السياسيين لثروات العراق”.
وكتب الى أصدقائه: “… كنا نغني: أيتها الحرية أنت قرآني وإنجيلي، مهد طفولتي ومدرستي وفانوسي .. أيتها الحرية أنت أمي .. سأواصل دربي ولن أهرب ولن أرتجف ولن أخاف، وسأصر، هذه المرة، لا على الغناء وانما على الهتاف للحرية تحت نصب جواد سليم، لعلي أعثر على قبري هناك وأنام بسلام …”
* * *
الهادي المهدي غير الهيّاب سيتألق بمصرعه، بينما ينحدر القتلة نحو مستنقع الظلام ومزبلة التاريخ !
الظالمون جاوزا المدى، وموتك أيها المهدي أغاظ العدا ..
قتلوك بكاتم صوت وما علموا أن صوتك حفّار قبرهم !…… #
# عن الحوار المتمدن…..