الفكر السياسي

مفهوم العنف، مفهوم الإرهاب

مفهوم العنف، مفهوم الإرهاب

د. فالح عبد الجبار

2006 / 8 / 5
الارهاب, الحرب والسلام

مع اننا معشر العرب أفشل أمم المعمورة في تنظيم العنف (الحروب، الجيوش)، فإننا أكثرها زعيقاً في تأليه هذه الوسيلة النهائية، القصوى، في حل النزاعات. وبينما تبلور أمم كثيرة أساليب وميكانيزمات للتسويات، والحلول الوسط، مطورة النظم الديمقراطية خصوصاً في المجتمعات غير المتجانسة، نرفع نحن عقيرتنا بتجانس متخيل، وانسجام من نسج الأوهام. غير أن ثمة فرصة لخرق هذه القاعدة، في العراق.
ثمة حالة من النزاع مستمرة منذ 1968 عند كثرة من العراقيين، ومنذ 2003 عند بعضهم. لا مراء في ان نزاع الحقبة الثانية منكشف للملأ، بخلاف نزاعات الحقبة الأولى، الجارية بمعظمها في الخفاء.
النزاع بذاته ليس سالباً بإطلاق ، فهو مصدر حيوية، وسبب للتطوير، شريطة أن يجري بوسائل مدنية، اي عن طريق المؤسسات. وهو بلا شك ليس ايجابياً بل مصدر تدمير وتقهقر، ان جرى بوسائل عنيفة. ثمة مساع عراقية لحل النزاع اسمها مشروع المصالحة الوطنية. وما من تسوية أو مصالحة ستلغي الفروق والخلافات، بل تظل مسعى لايجاد حلول وسط، وارساء وسائل جديدة لتلطيف الخلافات والتعايش معها .
يبدو ان هذه التصورات، الجديدة على عالم السياسة العراقي، المعروف بحديته وحدته وقطعيته، أخذت تشق طريقها الى تفكير معظم السياسيين. ولعل مبادرة رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، تندرج في هذا السياق، وتشكل نقطة افتراق بينة عن تفكير سلفه. فهل نحن امام فرصة جديدة لحل النزاع، أم حسب الصياغة الرسمية: « المصالحة الوطنية»؟ ربما.
يلاحظ في برنامج المالكي ثلاثة عناصر محورية اولها واخطرها هو: المبادئ الناظمة، وثانيها: السياسات المطلوبة، وثالثها الآليات، اي وسائل التنفيذ. لعل هذا التقسيم لبرنامج او خطة المصالحة، او حل النزاع، يشي بقدر من الوضوح مفتقد عادة في العمل السياسي.
ويلاحظ ان حقل المبادئ مليء بألغام الخلاف والاختلاف. ثمة في الاقل ثلاث مقاربات لهذه المبادئ، الناظمة لعملية المصالحة. ثمة المقاربة الايديولوجية التي ترى الى اصحاب العنف بمنظار جماعة ايديولوجية مرفوضة ومنبوذة بقضها وقضيضها، وذلك انطلاقاً من اعتبار البعث، المنظم الاساس للعنف، حركة ايديولوجية عنصرية واجبة الاجتثاث، واعتبار الاصولية المحاربة (القاعدة وسواها) جماعة تكفيرية، تنحو منحى طائفياً، لا قبل للتعايش معه. ولعل الشق الاول من النظرة الايديولوجية (الخاص باعتبار البعث عنصرياً) مستمد من ترسانة فكر حداثي ، يستنسخ دون ابداع تجربة اجتثاث النازية في المانيا، باعتبارها نمطاً من العنصرية التدميرية. وقد تلقفت الاحزاب الاسلامية الشيعية هذه الفكرة وتمسكت بها، مدعمة بإيران، التي تحبذ ازالة البعث، لاعتبارات ايديولوجية واستراتيجية في آن.
هناك مقاربة ثانية لمسألة العنف والبعث، ذات طابع قانوني، ترى الى اقطاب النظام السابق على قاعدة التزام القانون أم خرقه وبالتالي تمييز البعث ليس على اساس الانتماء( المرتبة الحزبية)، بل على اساس نظافة السجل القانوني. بتعبير آخر، ان اجتثاث البعث، كسياسة رسمية، ينبغي ان يحل في اروقة القضاء، وليس في ادراج هيئة شبحية اتهمت، مراراً، بأنها تبيع خدماتها في الاقصاء والادراج، بيعاً سياسياً او تجارياً.
هناك مقاربة ثالثة لمسألة العنف واجتثاث البعث، هي مقاربة براغماتية، او عملية تقوم على ارجاع الحقوق المدنية، والسياسية، لقاء وقف العنف، بصرف النظر عن حصول خروقات قانونية (عدا عن قيادات الصف الاول). والمفارقة ان هذه السياسة كانت موضع تطبيق فعلي عند سائر الاحزاب، وبخاصة الاسلامية الشيعية، حيث ضمت الكثير من البعثيين السابقين مقابل الولاء الجديد لها ، ولكن هذه النزعة البراغماتية بقيت بمثابة السر المعلن، سياسة متاحة للاحزاب، ممثلة المصالح الضيقة ومحظورة على الدولة، ممثلة المصالح الكلية للمجتمع.
ونلاحظ ان هذه المقاربات الثلاث، الايديولوجية والقانونية والبراغماتية، تكاد ان تكون ماثلة في عدد من حالات الانتقال من مجتمع الواحدية الى مجتمع التعددية، في المانيا النازية (1945)، وفي تشيلي، وجنوب افريقيا.
في المانيا النازية، طبقت المقاربة الايديولوجية وان يكن بوسائل قانونية، حيث حوكم كل النازيين على انتمائهم، مثلما حوكم النازيون وغير النازيين على ضلوعهم في جرائم ضد الانسانية. ورغم الصرامة في تطبيق هذه السياسة تراجع الحلفاء عنها لحظة احتدام الحرب الباردة ش
وفي تشيلي، مثال معاكس تماماً، على غلق كل ملفات الماضي بما فيها من انتهاكات وخروقات وقتول، مقابل فتح الباب اما انتقال سلمي. لم يكتب السياسيون حرفاً عن هذه المساومة التي كانت مؤلمة من الوجهة الاخلاقية، حيث رأت الضحية جلادها يتبختر ببزته الرسمية ونياشينه، مخفياً دماء قتلاه تحت قناع بطولة قومية زائفة. وكان من نصيب الادب ان يسجل الحقائق في مسرحية بعنوان: الموت والعذراءن التي تلقفتها هوليوود لحسن الحظ.
واخيراً ثمة الحل الجنوب افريقي: الحوار والمكاشفة، والمصالحة والعفو، اعتماداً على تقاليد الاعتراف المسيحية.
يحتاج العراق الى هذا كله، فثمة اصحاب القرارات المدمرة، الذين زجوا العراق في أتون حروب مدمرة، او مزقوا نسيج الوئام الوطني، وانزلوا الأمة الى درك قبيلة مهلهلة.لا شفاء لأولاء الا بالحل الالماني. وثمة حاجة الى غلق الملفات، على الغرار التشيلي، بروح براغماتية هدفها الاسمى هو السلم المدني. واخيراً ثمة حاجة الى محاكاة نموذج مانديلا.
ويلاحظ ان الحوار او الخلاف الدائر حول تعريف «الارهاب» و»الارهابي»، يحوي كل هذه العناصر، بين من يرى الارهاب تعريفاً ينطبق على كل هيئة غير قانونية(دولة) تمارس العنف لتحقيق اغراض سياسية (التعريف الاميركي الشامل).
في المقابل يردد السياسيون العراقيون ان الارهاب تعريف ينطبق على كل من مارس او يمارس العنف ضد العراقيين، وهو تعريف يستثني كل من استهدف ويستهدف القوات الاجنبية، وثمة تعريف ثالث، يرى ان الارهاب هو كل اعمال العنف المرتكبة ضد المدنيين بعامة والمؤسسات العراقية، بعد تأسيس مشروعية هذه الاخيرة عبر الانتخابات.
هذه الآراء المتضاربة تشي بالتنوع. وتميل الحكومة الحالية الى النأي بنفسها عن الموقف الحكومي السابق، والاتجاه الى مزيج من نظرة قانونية-براغماتية، لعل لها حظاً أوفر من النجاح.@

@ عن  الحوار المتمدن..

زر الذهاب إلى الأعلى